5ـ جمع/تحليل البيانات و الكتابة العلمية

إذا كان اختيار موضوع البحث و تحديد هدفه و التفكير في أنجع الطرق العلمية لتحقيق ذلك الهدف يشكل مرحلة متميزة عن مرحلة جمع البيانات الميدانية ثم التعليق عنها وفق الأسلوب الأمثل، يمكننا القول أن البحث العلمي يمر بمراحل ثلاثة هي: المرحلة التحضيرية، والمرحلة الميدانية، و مرحلة الكتابة العلمية.

 وتتضمن كل مرحلة من المراحل مجموعة من الخطوات. ففي المرحلة التحضيرية يقوم الباحث باختيار موضوع بحثه (مشكل البحث)  وتحديد المفاهيم الأساسية المرتبطة بموضوع اهتمامه كما هي مصاغة في العنوان المعبر عن موضوع اهتمامه و كما تتبلور و تتحدد هي و المفاهيم المتفرعة عنها، على ضوء التراث العلمي المتوفر لديه و صياغة الإشكالية المنظر لها على ضوء التراث العلمي و الدراسات السابقة إن وجدت، والفروض العلمية المستنتجة من تنظيره لموضوع بحثه، وتحديد الإجراءات المنهجية (أنجع السبل لقياس مدى صحة تلك الفرضيات) و بناء الأدوات اللازمة لجمع البيانات، كما يقوم بتحديد مجالات البحث الثلاثة البشري، المكاني، الزمني.

أما في مرحلة البحث الميداني، فيقوم الباحث باستعمال الأدوات التي بناها، إن صح التعبير، و كيفها بطريقة كفيلة بتمكينة من جمع المعطيات الميدانية التي يحتاج إليها لكي يقيس مدى صحة الفروض التي صاغ، إن كانت دراسته تتضمن فروض علمية (الدراسات الوصفية لا تحتاج دائما إلى فروض، خاصة الدراسات الاستكشافية، أو المسوح الاجتماعية كالإحصاء العام للسكان مثلا). في هذه المرحلة يقوم الباحث بجمع البيانات إما بنفسه أو عن طريق مجموعة من الباحثين الميدانيين الذين يستعان بهم في أغلب الأحيان في البحوث الكبيرة التي تجريها مراكز البحث العلمي والهيئات والمؤسسات العامة، وتتضمن هذه المرحلة مجموعة من الخطوات أهمها: عمل الاتصالات اللازمة بالمبحوثين وتهيئتهم لعملية البحث، وإعداد الباحثين الميدانيين وتدريبهم، والإشراف عليهم أثناء جمع البيانات من الميدان للوقوف على ما يعترضهم من صعاب، والعمل على تذليلها أولاً بأول، ثم تجريب أدوات الملاحظة الميدانية في نزول استطلاعي للميدان  لاستكمال نواحي النقص في تلك الأدوات والتأكد من أنها صحيحة ودقيقة و مسجلة بطريقة منظمة.

أما في المرحلة النهائية، مرحلة  تصنيف و تفريغ تلك البيانات وفق ما تتطلبه الفروض المصاغة أو نوعية الأسئلة المطروحة و الممهدة البحث، يقوم الباحث بتصنيف البيانات  وجدولتها وتحليلها وتفسيرها، ثم يقوم بكتابة تقرير مفصل يشتمل على كل الخطوات التي مرت بها عملية البحث.

وفيما يلي عرض موجز عن أهم ما يجب توفره في التقرير النهائي عن الدراسة:

 

كتابة التقرير النهائي عن البحث

بعد الانتهاء من مرحلة التنظير و مرحلة جمع المعطيات الميدانية ثم تفريغها وفق ما تقتضيه الدراسة، يبدؤ الباحث في التحليل و التعليق و التفسير للنتائج، كتابيا قبل المبادرة في  كتابة المقدمة التي يذكر فيها مجمل الخطوات المشار إليها أعلاه.

        يشترط على الباحث في تقريره النهائي عن الدراسة أن يتوخى الحذر من الأسلوب الإنشائي أو الأحكام المسبقة، أي الأقوال الغير مبررة بحقائق نظرية أو ميدانية يستدل بها عن ما يقره من أقوال أو إجراءات عملية. عليه أن يستشهد في أحكامه و قراراته بخصوص الإجراءات المنهجية المتخذة و نتائجه كما يفسرها، بالمنطق أو بمصادر علمية سواء كانت نظرية أو ميدانية أو كليهما.

        قبل الكتابة النهائية لباقي فصول بحثه يجب أن يهتم بالمقدمة التي يوضح من خلالها عدد من العناصر الهامة (مناك من يفضل وضع هذه العناصر الهامة بعد المقدمة، ضمن فصل تمهيدي مبررين ذلك بطول  عرضها). العناصر هي التالية:

 

.تعليق حول العنوان :

يشترط في عنوان البحث أن يؤدي وظيفتين أساسيتين:

- الأولى: إيضاحية، أي أن عنوان الدراسة يعبر للباحث نفسه قبل قرائه، في عباراته الأساسية عن موضوع البحث و عن المفاهيم الأساسية التي يجب تحديدها بصفة صورية بعد الإطلاع على التراث العلمي والتنظير بحيث تمكنه من تصميم أدوات مكيفة للتكشف عن حدودها في الواقع الميداني في خصوصيته الزمنية و المكانية (تعاريف إجرائية).

لذا، يشترط في العنوان أن يكون دقيقا و أن يكتب بعبارات موجزة ولغة واضحة تبرز الفكرة الأساسية لموضوع الدراسة من خلال العبارات الدالة عليه و التي هي في الواقع مفاهيم من ورائها نظريات و اختلاف في الرؤى ناجم عن اختلاف زوايا النظر للواقع الذي يعبر عنه المفهوم. و حال البشرية كذلك، يستوجب على الباحث اتخاذ موقف من تلك النسبية في المنطلق و الفهم حتى يزيل كل غموض عما ينوي البحث فيه، و من أي الزوايا ينظر إليه.

- الثانية: إعلامية، أي إعلام الباحثين والقراء بالفكرة والموضوع الذي يدرسه الباحث. أهمية الإعلام هنا تكمن في فتح مجال الحوار و محاولات التفنيد المثرية و الضرورية لكل البحث العلمي نزيه و موضوعي.

 

. تحديد الإشكالية

الإشكالية أهم مراحل البحث مثلما أن تشخيص المرض أهم من أي وصفة اعتباطية لأن الدواء الناجع غالبا ما يكون  بعد تشخيص للمرض صحيح، أي بعد معاينة مشكل المريض على ضوء نظريات الأعراض المرضية.

الإشكالية همزة الوصل بين البحث النظري في التراث العلمي المرتبط بموضوع البحث و البحث الميداني، و مكانها الحقيقي هو إذن خلاصة الجزء النظري، و لا حرج أن تكتب في مقدمة التقرير نظرا لأهميتها مثلما أن المقدمة تكتب في بداية التقرير رغم الإنتهاء الباحث من جميع مراحل بحث قبل أن يقدمه للغير. القضية قضية منطق و ليست قضية شكل أو تقاليد خاطئة.

يمكن للباحث أن يصيغ إشكالية مبدئية في المرحلة الأولى من بحثه، و لكن عليه أن يراجعها بعد الإطلاع على الدراسات السابقة و تعرفه على النظريات المفيدة لبحثه و تحديده للمفاهيم التي من شأنها تحديد مجال بحثه و تساؤلاته.

الإشكالية عبارة عن طرح لتساؤلات الباحث بعد تنظيره للموضوع. لفظ مشكلة البحث يرادف لفظ موضوع البحث (غموض أو إرادة في الإصلاح...) في حين أن لفظ الإشكالية يعبر عن النقطة المفصلية بين تنائج دراسة الآخرين و نتائج دراسة الباحث نفسه. فيها تطرح الأسئلة بدلالات منظر لها، و هي تمهد لصياغة الفروض إن تطلب البحث ذلك و تبررها نظرا للخلفية النظرية من ورائه.ا

 

.  تحديد نوع الدراسة أو نمط البحث :

يتحدد نوع الدراسة على أساس مستوى المعلومات المتوفرة لدى الباحث، وعلى أساس الهدف الرئيسي للبحث. فإذا كان ميدان الدراسة جديداً لم يطرقه أحداً من قبل اضطر الباحث إلى القيام بدراسة استكشافية تهدف أساساً إلى الكشف عن واقع ما و وصفه والكشف عن فروض محتملة له يمكن إخضاعها لبحث أكثر دقة (النظرية التطورية لداروين منبثقة عن مثل هذه البحوث). وإذا كان الموضوع محدداً عن طريق بعض الدراسات التي تم إجراؤها في الميدان أمكن القيام بدراسة وصفية تهدف إلى تقرير خصائص الظاهرة وتحديدها تحديداً كيفياً وكمياً. وإذا كان الميدان أكثر تحديداً ودقة يستطيع الباحث أن يقوم بدراسة تجريبية للتحقق من صحة  الفروض التي توصل إليها.

ويلاحظ أن وضع الفروض يرتبط بنوع الدراسة. فالدراسات الاستكشافية أو الدراسات المسحية، مثلا، تخلو من الفروض و تكتفي بتساؤلات حول ما يمكن الكشف عنه من حقائق كمية أو نوعية، في حين أن بعض  الدراسات الوصفية الأخرى تتضمن فروضاً إن كانت صياغتها مبررة على ضوء المعلومات المتوفرة في نتائج الدراسات السابقة، و مبررة كذلك بكونها تمكن الباحث من تحديد مجال بحثه الميداني وفق أدوات للملاحظة الميدانية تكون مكيفة للمجال المحدد ضمن تلك الفروض أو التوقعات. في مثل هذه الحالة تكون صياغة الفروض على شكل توقعات, لا أشارة فيها لمتغيرات مستقلة و أخرى تابعة مثلما هو الشأن في البحوث التجريبية. أما الدراسات التجريبية فإنه من الضروري أن تتضمن فروضاً دقيقة محددة بحيث تدور الدراسة بعد ذلك حول محاولة التحقق من صحتها أو خطئها.

 

.  تحديد المنهج :

يشير مفهوم المنهج إلى الكيفية أو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة موضوع البحث. وهو يجيب على الكلمة الاستفهامية: كيف؟ فإذا تساءلنا كيف يدرس الباحث الموضوع أو يعالج في عالم المحسوسات الخلل أو المشكل الذي حدده؟ فإن الإجابة على ذلك تستلزم تحديد نوع المنهج.

إذا أقررنا أن المنهج العلمي بمعناه الواسع هو الاستدلال المنطقي بالحقايق الجزئية سواء كانت نظرية/معنوية أو ميدانية/حسية قصد الوصول إلى الكل أو التعميم أو القامون ( المنهج الاستقرائي) أو أنه الاستدلال المنطقي بالكليات أو القانون أو النظرية قصد تبرير التطبيقات أو التوقعات على الجزء (المنهج الإستنتاجي) أو كليهما، أي الربط المنطقي بين الحقائق الجزئية المفضي لتعميمات و كشف عن قوانين علمية ثم الإستدلال بالكليات على واقع خاص، هو جزء من واقع كلي مفترض قد يشذ عن النظرية في الدراسات التطبيقية و الدراسات المستقبلية و البحوث الفلسفية قد تفند في خصوصيتها تلك الكليات أو التعميمات، يمكننا القول أن تنوع الدراسات العلمية في البحوث التربوية كالمسح الاجتماعي، والبحث التاريخي، و دراسة الحالة، والبحوث التجريبية، لا يغير شيئا من نوعية المنهج المتبع، بمعناه الواسع، و إن اختلفت الإجراءات المنهجية الكميفة لموضوع البحث و أدوات الملاحظة المستعملة في مرحلة من مراحل البحث.

على هذا الأساس نتحفظ عن الإقرار الشائع بوجود منهج وصفي قائم بذاته، يميزه عن المنهج التجريبي، خاصة عندما يتذكر أحدنا أن بعض الدراسات الوصفية لا تحتاج إلي فروض، و وجود الفرض من عدمه خطوة تميز طريقة عن الأخرى.

لهذا نفضل الكلام عم دراسات وصفية و أخرى تجريبية يكون المنهج المتبع فيها إما استقراء أو استنتاج أو في حدود الإمكان،  مزج بينهما في حين أن الإجراءات المنهجية تبقى متباينة تباين مواضيع البحث و غير مرتبطة بكون البحث وصفي أو تجريبي.

 

.  تحديد التقنية و الأداة أو أدوات جمع البيانات :

إذا كانت التقنية المتبعة في جمع البيانات عبارة عن معرفة الأسلوب الذي من خلاله يمكن أن تجمع تلك البيانات مثل التقنيات الحية كالمقابلة أو الملاحظة بالمعايشة و التقنيات الوثائقية كتحليل المحتوى أو البيانات الإحصائية، فإن  مفهوم الأداة يشير إلى الوسيلة المحسوسة التي يجمع من خلالها الباحث البيانات التي تلزمه مثل الإستمارة و دليل المقابلة و المقياس.

لفظ التقنية أو الأسلوب يدل على حقيقة معنوية في حين أن لفظ الأداة يعبر على حقيقة محسوسة يمكن للباحث أن يلمسها بيديه و يقرأ العبارات الموجودة ضمنها.

نظرا لدقة الأسلوب العلمي، على الباحث أن يميز بين اللفظين في تقريره عن الإجراءات المنهجية المتبعة، حتى و إن شاع الغموض بين الباحثين بخصوص هذه الألفاظ، كالادعاء مثلا أن الملاحظة أداة من أدوات البحث العلمي في حين أن الملاحظة (إدراك حقيقة ما) تحتاج إلي أداة و إن كانت تلك الأداه العين المجردة.

ليس كل ما شاع استعماله حقيقة علمية. قد تكون حقيقة وهمية، و الاحتمال وارد.

 

.  تحديد مجال للبحث:

وذلك بتحديد المنطقة أو البيئة التي تجرى فيها/عليها الدراسة، مجتمع البحث و قد يتكون هذا المجتمع من جملة أفراد، أو عدة جماعات، وفي بعض الأحيان يتكون مجال البحث من عدة مصانع أو مزارع أو وحدات اجتماعية، ويتوقف ذلك بالطبع على  موضوع الدراسة.

و يقصد كذلك من تحديد مجال البحث، تحديد مجاله الزمني لجمع البيانات. ويقتضي ذلك القيام بدراسة استطلاعية عن الأشخاص الذين تتكون منهم العينة قصد تصحيح أداة البحث و تحديد الوقت المناسب لجمع البيانات.

 

. جمع البيانات من الميدان:

يكو من المفيد في المقدمة أن يذكر الباحث طريقة جمعه للبيانات التي قد يتم جمعها من طرف الباحث نفسه، أوقد يتم جمعها عن طريق مندوبين عنه. ولما كانت عملية جمع البيانات هي التي تتوقف عليها صحة النتائج ودقتها، فإن جامعي البيانات يجب أن تتوافر لديهم الخبرة والدراية الكاملة بالبحوث الميدانية، وأن تكون لديهم من القدرات والمواهب الشخصية ما يؤهلهم لجمع البيانات كحسن التصرف  والصبر، وأن يكون لديهم إلمام ببعض القضايا الاجتماعية الخاصة بالمجتمع بعامة، ومجتمع البحث بصفة خاصة، كما أن من الضروري أن يقوم الباحث بتدريب جامعي البيانات قبل النزول إلى الميدان وذلك عن طريق شرح الهدف من البحث وخطته وكيفية تطبيق أدوات البحث على أن يشمل ذلك التدريب على الشروط الأساسية في تطبيق كل أداة وكيفية التصرف في المواقف المتوقعة، ويفضل أن يطبع دليل للعمل الميداني ليكون مرجعاً لجامعي البيانات يسترشدون به وقت الحاجة.

بعد كتابة المقدمة و ما يحبذ ذكره فيها، يتابع الباحث كتابة تقريره بنفس الأسلوب العلمي الذي أشرنا إليه متحاشيا الأحكام المسبقة في شخصه أو تلك الغير مبررة عن غيره من الذين يستشهد بهم متبعا تسلسا منطقيا بين الفصول، حيث أن الفصل المنتهي يمهد للفصل الموالي إلى أن يصل إلى خلاصة بحثه

        على الباحث أيضا أن يخصص فصلا أو جزءا من تقريره للمقترحات و التوصيات، و كذلك عليه أن يذكر قائمة للمصادر أو المراجع التي استند عليها. و يمكنه بعد هذه القائمة أن يضيف ملاحق يراها ذات فائدة للباحثين أو المحققين في صدق نتائج دراسته.