المرض النفسي: مقاربة عقلانية
إعداد يوسف قادري .
نشر المقال أصلا في مدونات مكتوب ، في 21 ديسمبر 2007 الساعة: 15:34 م

جنون، اضطراب أم مرض نفسي؟

الجنون لفظ عامي متداول يشير إلى سلوك غير سوي، باعتبار أنه سلوك غير معقول لما يفسره و يبرره ضمن سلم للقيم  سائد  في محيط المريض الاجتماعي.

اللفظ العامي أشمل في دلالته من مفهوم المرض  النفسي الذي كذلك يتجلى أحيانا لمحيط المريض الاجتماعي في سلوكات غير منطقية، غير معقولة  لمبرر مقنع للرقيب الاجتماعي. عكس أعراض مرض "المجنون"  التي تكون دائما جلية، أعراض المرض النفسي تكون أحيانا خفية يشعر بها الشخص المريض فقط (اضطراب). سبب السلوك الغير سوي قد يكون عضويا (مؤثرات عصبية، سحر...). و قد يكون معنويا، إيحائيا، له تأثيراته على المشاعر و السلوك معا.  

نظرا لتنوع أسباب و أعراض اضطرابات السلوك، لا يصح تصنيفها جميعا ضمن الأمراض النفسية. المرض النفسي له خصوصيتة التي تميزه عن حالة "الجنون" بمدلولها العامي أو عن الصرع أو غيرها من الأمراض العصبية. و لتمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود لا بد من توضيح مفهوم النفس ما دام موضوعنا متمحور حول المرض النفسي فقط.

 لفظ النفس مقرون عادة لصفة البشرية، فيقال "النفس البشرية". و البشري كائن بيو/ اجتماعي،  له بعد فطري، بيولوجي، حسي، خاضع لقوانين الحتمية السائدة في الطبيعة و له كذلك بعد معنوي، مكتسب، نتاج قوانين اجتماعية، نسبية تختلف من جماعة لأخرى و خاضعة لحرية الفرد و لمسؤوليته في اتخاذ القرار. النفس لفظ يعبر عن حقيقة ليست حسية محضة، و ليست معنوية محضة، بل يعبر عن حقيقة تشمل البعدين معا. أو بالأحر، اللفظ يشير إلى قاسم مشترك بين البعدين، باعتبار أن الإنسان كائن بيو إجتماعي، يجتمع فيه الحس و المعنى دون أن يطغى بعدا على الأخر لكونهما مختلفين، متميزين عن بعضهما. نقطة الإلتقاء فقط هي التي تتميز عن البعدين معا، و ذلك لكونها مزيجا بينهما تشبه مجموهة القواسم المشتركة في الرياضيات الحديثة. إذا كان للإنسان بعدا حسيا، و بعدا معنويا، كل قائم بذاته و يختلف عن الآخر، فإن نقطة تماس البعدين تشكل بعدا ثالثا له خصوصيته التي تميزه عن البعدين معا. مفهوم النفس يعبر عن ذلك البعد الثالث.

 

النفس لفظ يعبر عن حقيقة لها خصوصيتها، يمكن وصفها بأنها "ثنائية حرجة"،  "عقل" أو ربط  لحقائق مختلفة، الواحدة حسية و خاضعة لحتمية القوانين الطبيعية و الأخرى معنوية و خاضعة لحرية الفرد و مسؤوليته، و الحرج في تلك الثنائية  ناجم عن التنافر بين الحتمية و الحرية، و بروز الدافع لتحقيق التوافق عند نقطة إلتقاء البعدين.

 

إذا اعتبرنا أن النفس تتمثل في عملية "العقل"  لحقائق متنافرة، يمكننا القول أنها حال و  إجراء معا. حال لأن عقد الصلة بين البعد الحسي (البيولوجي)  و البعد المعنوي (الإجتماعي) تبقى قائمة على شكل "ربط"  للبعدين حيث يبقيان متلازمين ما دام أن الإنسان حي. ذلك الحال يستلزم إثباتا بالفعل من خلال  عملية الربط  في إطار صيرورة من الحقائق الحسية و المعنوية، متغيرة باستمرار.

 

وفق هذا المنظور، يمكننا أن نخلص إلى نتيجة منطقية مفادها أن وظيفة النفس هي عقد الصلة التوافقية المثلى ( تحقيق التوازن) بين الحس و المعنى، بين ما هو فطري و ما هو مكتسب، و أن عدم النجاح في تحقيق ذلك المطلب التوافقي ، ينم عن وجود عطب في النفس  أو أن النفس عاجزة عن القيام بالوظيفة التي وجدت من أجلها، أي تحقيق الصلة التوافقية بين البعدين المتلازمين. في تلك الحالة، يمكننا أن نقول أن النفس مريضة و تحتاج لمن يعالجها أو يصلح عطبها من خلال إعادة التوازن بين البعدين.

 

إذا اقتصر فقدان التوازن بين البعدين على إحداث أحاسيس باطنية بعدم الاكتمال أو الألم  جراء ذلك، نعبر عن  تلك الحالة عادة  بلفظ "اضطراب نفسي" و لكن إذا استفحل ذلك الاضطراب، و أفرز  سلوكا  ظاهريا "غير سوي" وفق معايير محيط المريض الاجتماعي، نتكلم حينها عن "المرض النفسي". في الواقع كلا الحالتين تنم عن عطب أو مرض، و لكن للتمييز بين درجة تفاقم المشكل نستعمل العبارة الأولى أو الثانية، اصطلاحا قصد ضبط عملية التواصل و تبليغ المعاني بأكثر دقة.

 

يمكننا القول، زيادة على أن النفس عبارة عن "عقل" من حيث الإجراء و الحال، هي كذلك وسط الأنسان، " لبه" أو "قلبه"،  باعتبار  أن الحيز الذي يتم فيه الربط بين البعدين،  (القاسم المشترك)، هو بالضرورة مكان وسط. إذا كان لفظ النفس يدل على حال و إجراء في نفس الوقت فإنه يدل كذلك على وسط الانسان ببعديه، لبه،  قلبه.

 

على ضوء التحليل أعلاه، يمكننا القول أن "المرض النفسي ظاهرة مرضية عقلية تصيب قلب الإنسان"، و نعني بالقلب هنا اللب و ليس العضو النابض في صدر الإنسان. وكأن لهذه القراءة ما يثبتها في كتاب الله، مثلما تشير إلى ذلك الآية الكريمة التالية:

 "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها …؟" -القران الكريم، الحج، آية 46

 

السير (حس) و أخذ العبر(معنى) منبثق من الاتصال بعالم المحسوسات.  السير سلوك من شأنه إثارة البحث عن الدلالات المرتبطة بالمحسوسات. فهو إذن تمرس على العقلنة و الربط، و يكون ذلك التمرس ناجعا في تنمية القدرة على الربط إذا وجد شحص مساعد في تلك الرياضة، شيخ مرب من شأنه حماية مريده من المهلكات (إشارة لعلاقة التربية بالعلاج النفسي الوقائي).

 

عند حدوث عجز في تحقيق مطلب التوافق، في غياب شيخ مرب، قد يهرب الشخص من تلك الوضعية هروبا مرضيا، غير سوي، غير مقبول من طرف الرقيب الإجتماعي، و ربما حتى من الشخص الهارب نفسه. في تلك الحالة نقول عنه أنه مريض، و قد ينعت من طرف العامة بالمجنون، و تبرز إذن الحاجة لمساعدة خبير بالنفس البشرية، شخص له الكفاية في التشخيص و العلاج (…رياضة سلوكية مقرونة بمساعدة معنوية، دلالاتية). و لكي ينجح الطبيب النفسي في تلك المهمة لا بد أن يكون عاقلا لدلالات محيط الفرد الاجتماعي، ملما بطروحات ذلك المحيط و نواقضها، ملما بتركيباتها التوافقية، "السوية". الأمر ليس هينا، لأن المهمة تحتاج لنضج اجتماعي و وجودي. و هذا المطلب ليس مسلم به عند كل ممارسي العلاج النفسي في أطر ثقافية متغيرة، لها خصوصيتها التي تستلزم دراية و لباقة من طرف المعالج.

 

 يمكننا القول، على ضوء ما سبق، (استنباطا من أحكام كلية –استنتاجات- وليس استقراءا لخبرة ميدانية سابقة) أن المرض النفسي حالة عجز عن التوفيق بين حقائق البعد الحسي في الإنسان و حقائقه المعنوية، تفرز هروبا غير "سوي" (التوفيق يستدعي القدرة على إدراك الحقائق و إثبات وجودها بإثبات قدر الله و قضائه بدل الهروب منها). الهروب يأخذ أشكالا مختلفة وفق اختلاف التركيبة النفسية للأشخاص الذين يمرون بصدمة نفسية أو بتجربة صراع بين المطالب، مؤلم أحيانا، و مفض لعجز عن التوفيق بين النواقض أحيانا أخرى. العجز في تحقيق مطلب التوازن ذاك، يؤدي عادة إلى سلوك غريزي، بديهي، هو الهروب من تلك الوضعية. و الهروب يكون عادة إلى الوراء، و لكن ليس دائما.  قد يكون الهروب هروبا إلى الأمام كما هو الحال بالنسبة للخنزير المجروح. و قد يكون الهروب تمويها كما تفعل الحرباء.

 

إذا كان هذا الهروب هروبا إلى الأمام، فقد يتخذ المريض حينها أي شخص بريء، ككبش فداء تباح عليه كل الضربات و المكائد، علها تخفف من ألم مجحود السبب...، إلى أن تستفحل العقدة من خلال ردود فعل الضحية أو بالأحرى الأضحية.

 

و كأن المريض بسلوكه ذاك، يبحث حثيثا عن ذريعة لخلق مشاكل مع أي يقدر أنه يستحق الإذاية، علها تبعد عنه الأرواح الشريرة، ليصدق بعد ردة فعل الشخص المعتدى عليه ظلما، أن كبش الفداء الذي ابتدع لنفسه هو السبب الحقيقي لبؤسه و شقاوته و لتبرر بعدها كل المكائد ضده، و لتتفاقم العقدة أكثر و يستعصى الشفاء.

 

الهروب إلى الأمام المتمثل في اتخاذ كبش فداء عبارة عن آلية دفاع، متاحة للجميع (سلوك سحري ينسيه مشكله الأصلي من خلال اللهو بردات فعل الأضحية التي اتخذ لنفسه) و لكن، كون ذلك السلوك غير أخلاقي في تقدير البعض فهم لا يلجئون لتلك الآلية في الدفاع. لا يختار كل مريض متألم،  الهروب إلى الأمام  ليبرر لنفسه الظلم و العدوان على الآخر، متخذا إياه ككبش فداء، و لا يقدر أن ذلك السلوك السحري إجراء ضروري لإبعاد الأرواح الشريرة في حضرة من السب و القذف إن لم يكن ضربا أو أبشع من ذلك.

 

هناك من يختار الهروب إلى الوراء من خلال الانطواء على ذاته، عله "يفك الطلسم" من خلال ترصد المشاعر المرموز لها أحيانا في الأحلام، و المعبر عنها، أحايين أخرى، في إبداعات فنية، تخفيفا للألم و بحثا عن المتفهم، أو ربما كذلك، الرجوع إلى مرحلة من مراحل الطفولة السعيدة و تقمص شخصية الأطفال في كلام و سلوك لا ينطبق على شخصهم الحقيقي. تلك الطرق لتجنب الألم غير سوية بتفاوت لأنها غير مقبولة من طرف الرقيب الاجتماعي. و يجب الإشارة هنا أن مفهوم السواء مفهوم نسبي، يختلف باختلاف الثقافات و جماعات الانتماء.

 

قد تكون آلية الدفاع التي يلجأ إليها المتألم نفسيا، لا هروبا إلى الأمام و لا هروبا إلى الوراء بل  وقوفا و تمويها في المكان نفسه (سلوك هيستيري). يا القاعد نوض تهرب، و يا الهارب وين رايح؟ ...إذن، في تقدير البعض، من الأحسن التمويه

 

النفس المريضة مرضت لأنها، أحيانا، لم تكن مهيئة بما فيه الكفاية عند حدوث الأزمة النفسية لأنها لم تكن لديها القدرة الكافية لإيجاد المخرج الموفق، و تحقيق التوازن من خلال عقل حقائق الواقع المعاش  لمعاني و دالات  قضاء الله و قدره، لمعاني الوسطية بين الخوف و الرجاء، المنبثقة من معاني العبودية لله.

 

 وفق هذه القراءة،  الشفاء لا يمكن أن يكون إلا وجوديا، حين يدرك المريض أن "للبيت رب يحميه".

 

النفس المريضة، مرضت لأنها افتقرت في مرحلة ما إلى النضج الكافي للتوفيق بين الوقائع الحسية و التوقعات المعنوية ، أو أحيانا أخرى، هي تملك تلك القدرة العقلية و لكن تكفر بما وقع، تجحده، تغطّيه، تكذب على نفسها و على الآخرين، إلى أن يؤدي بها ذلك السلوك" الغير سوي" الغير مقبول من طرف الرقيب الإجتماعي، إلى تعقد الأزمة لتصبح عقدة نفسية يردم فيها السبب  و ينسى، ليتجلى أثره بعدها في وساوس قهرية، هستيريا، إجرام  أو غيرها من السلوكات المرضية التي تلهي المريض عن السبب الحقيقي لمعاناته، و تنسيه أياه.

 

يمكن التغبير عن الهروب السايكولوجي لدى المرضى النفسانيين بهذه الصور البيانية القرآنية: "لهم في قلوب لا يعقلون بها و لهم أعين لا يبصرون بها  و لهم آذان لا تسمعون بها". و كأن ردم رأس النعامة في الرمل ينجيها من الخطر.

   

عدم الاعتراف بالحقائق يبعد من خيارات المريض، خيار البحث عن التوفيق بين ما يجب أن يكون و ما هو كائن. هو يهرب، يغطي الشمس بالغربال. عدم الإعتراف بتلك الحقائق أو عدم القدرة عن هضمها دليل على إخفاق في عملية عقل المعنى للحس و التوفيق بينهما. المريض إذا رفض الوقائع، هو يرفض بذلك إثبات قدرة الخالق الفعال لما يريد. لكن قد لا يكون رافضا و جاحدا بل عاجزا عن التوفيق نظرا لعدم نضجه أو لجهل لديه. في تلك الحالة يكون العلاج المعرفي عادة هينا لأن الجهل قد يزول بالتوعية في حين أن الجحود أو تغطية الشمس بالغربال تنم عن حالة مستعصية.  و كأن الشخص الراشد الجاحد، إله مقابل الله، يسائله عما فعل، ليُثبت ذلك  أو يرفضه، تماما مثل الشريك في الملك.

 

خلاصة

النفس المريضة هي النفس التي لا تعقل حقائق الواقع المعنوية و الحسية لتوفق بينها، عجزا أو جحودا. فتلجأ حينئذ إلى آلية دفاع تناسب حقيقة طبعها، المؤمنة، الكافرة، أو المتذبذبة بين ذلك. و تتمثل  آلية الدفاع تلك، في الهروب السايكولوجي، هروبا تتجلى إخفاقاته في سلوكات غير موفقة، وساوس قهرية أو هستيريا أو إجرام، أو انحراف أو غيرها من مظاهر السلوك الغير السوي. سلوك غير معقول لما يبرره من قيم و معايير المجتمع. سلوك يجعل المشكل يتفاقم أكثر نظرا لعدم الرضا الاجتماعي. لكن، يبدو أن تلك الإخفاقات مفيدة في قرارة نفس المريض لأنها تلهي صاحبها عن الحدث الأصلي المؤلم، المسبب للصدمة النفسية، ليفلح في النهاية في ردمه بكومة من المشاكل الاجتماعية، حتى يتمكن في النهاية من  زحزحته إلى اللا شعو. في الواقع، تلك الآلية في الدفاع لا تلغي السبب تماما. النفس المريضة تعمى عن السبب، عمى سايكولوجي، و تلهو بآثاره.

 

الشكوى لله، و الطبيب إن وجد، استجابة.

يستطيع أحدنا أن يحمل الجواد لمورد الماء، و لكن لن يفلح في جعله يشرب إن أبى ذلك، مما يبرز أهمية الإقناع في عملية العلاج التي تستلزم كسب الثقة و ربما تعاطفا و ما ينجر عن ذلك من إفرازات مؤلمة أو سعيدة.