صناعة الهوية
هيثم مناع




"من ذا الذي يستطيع أن يقول أن المستقبل لم يأت في النفس بعد، إذا كان في النفس توقع المستقبل؟

ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن الماضي ليس حاضرا، إذا كان في الذاكرة ذكرى الماضي"

أوغستين



ثابت أم متحول، أساسي أم ثانوي، عنصر تقدم أم انكفاء على الذات، معطاء أم مقيد، ديناميكي أم متكلس، فقد شكّل مفهوم الهوية منذ آلاف السنين وحتى اليوم إشكالية غير قابلة للتجاوز في الوضع البشري. الأمر الذي لا يعني بحال عدم القدرة على عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها في المجتمعات البشرية. مفهوم غامض ومعقد ومتشعب برز محركا للتحرر، عامل وحدة للجماعة، وعنصر تمايز وتباعد لها عن الآخر وهميا كان أو حقيقيا. هذا المكون "الثابت" في عتلة التغيير، كان أحيانا المنظم الأساسي لإعادة بناء العلاقات بين البشرية، وأحيان أخرى العائق الأساس أمام مسيرات التحول في تاريخ الأقوام والشعوب.

في واحد من أكثر نصوصه جرأة، يبدأ سيغموند فرويد دراسته "موسى والتوحيد" بالقول:

"أن ننتزع من شعبٍ الإنسان الذي يعتبره خير أبنائه ليست عملية يمكن القيام بها بخفة أو عن طيب خاطر، ولكن لا يمكن اللجوء مهما كانت الحالة لرفض الحقيقة لحساب مصلحة قومية مفترضة، ولنا كل الحق في أن نعتبر كشف جملة الظروف مكسبا لمعارفنا"(1).

كان فرويد قد توصل إلى فرضية تقول بأن المحرر والمشرع والنبي المرسل لليهود لم يكن من العبرانيين وإنما مصريا. وكان السؤال الرئيسي عند باحث ناقش لسنوات مفهوم التميز والهوية، هل للحقيقة التاريخية أهمية عند الباحث رغم البعد الرمزي والأسطوري الضروري لكل هوية تاريخية؟

في القرن السادس قبل الميلاد، كتب هيرقليطس "لا يسبح الإنسان في مياه النهر مرتين"، لأن كل شيء يتحرك، ليس بالإمكان الحديث عن جواهر خالدة. بعد قرن على ذلك، بدأت معالم الخلاف تتبلور أكثر فأكثر في الفلسفة اليونانية القديمة مع بروز اتجاه يسميه كلود دوبار (2) بالأساسيين. هذا الاتجاه، مهما كان تعريفه أو تصوره للهوية، يعتمد على الإيمان بجواهر، "وقائع أساسية"، مكونات أصلية غير قابلة للنقاش، جوهر سرمدي باستعارة تعبير أفلاطون، حاضر باستمرار أو "كائن" خالص. إن الهوية للكائنات الاختبارية هي ما يبقى كما هو رغم كل المتغيرات. هذه القدرة على البقاء فوق حواجز الزمان وترهات المكان وعواقب الأيام هي التي تمنح التشابه قوة وجودية. التصور الذي يمثله برمنيدس Parménide بمأثورته « l’être est, le non-être n’est pas ». "الكينونة خالدة، وما سواها ليس كذلك".

ستختلف الأسماء والأسباب والمقومات وستبقى هذه العملية التأملية للتمايز والتشابه، العام والخاص، النحن والآخر، العالمية والخصوصية، في صلب التكوينات الثقافية للبشرية. ذلك باعتبارها أكثر من سؤال الهوية لوحده، المؤجج الدائم لإعادة اكتشاف الإنسان لنفسه أفرادا وجماعات.. فكما كان يقول الهراطقة في القرون الوسطى، من يقدم مائة دليل على وجود الله لديه مائة شك.

ليست الغاية هنا كتابة تاريخ "الهويات"، بقدر ما هي استقراء المفهوم ومكانته الخاصة والعامة في الأزمنة الحديثة.

لعبت الشعائر دورا هاما في التمايز الثقافي للجماعات. ورغم أن المسيحية شكلت تراجعا في الشعائر الشرقية في تداخلها مع الوثنية الأوربية وتأسيسها لعالمية الدين وفكرة التقدم، فقد ارتبطت إنسانية الإنسان فيها بالعمادة لا بالولادة. الأمر الذي نجده عند العديد من المعتقدات الإحيائية في إفريقيا التي جعلت من وشمها الخاص بطاقة هوية تزرعها على الجسد.. الرغبة في شعيرة متميزة رافقت السيرورة الدائمة للاختلاط الطوعي أو الإكراهي الذي جعل من كل نقاء عرقي أو قبلي أو إثني مجرد أسطورة جميلة يرويها الآباء للأبناء. بهذا المعنى، لم تكن الهوية بنية مغلقة سكونية ثابتة، بل لم يكن بوسع أية جماعة أن تنتمي للعالم دون أن يتغلغل العالم في مقوماتها الداخلية وأن تدغدغ فضوله ببعض الخصائص الخلاقة في وجودها. لعل من الأمثلة الأكثر بلاغة في التاريخ لعملية غسل الدم الدائمة للهوية، التجربة الإسلامية. فقد تحولت من دعوة دينية إلى دولة- مدينة إلى إمبراطورية إلى دين كوني. ذلك بتعبيرات دينية هنا ودنيوية هناك، عبر عمليات انصهار واندماج دائمة في الثقافة والحياة. عمليات ولاء وانتماء وتزاوج وتداخل، كان العنصر المشترك الأساسي بينها المرونة والقدرة على إعادة تمثل صورة الذات، على الأقل في القرون الأربعة الأولى.



الكرامة الجديدة!

لم تكن معجزة أو نعمة إلهية، بل كلمة مشحونة بالمعاني السلبية والانتقاصية هي التي ستتصدر سلّم المفاهيم الصاعدة مع الثورة الصناعية، لتصبح سريعا مصدر الهواجس والتوترات وتعبيرات القلق في الحياة العملية للناس وتكّون سلّم القيم الجديدة بآن. العمل، هذه الكلمة ستنال بركات الإصلاح المسيحي وهدير النضال النقابي والتوسع الرأسمالي وتصبح مصدر التأمل الفكري والأخلاقي. "محددة القيم" عند آدم سميث، سبب الحياة الأفضل عند الإنساني فورستييه، العمل هو الجوهر عند تورغوت Turgot ، سيترجم هيغل هذا التحول فلسفيا بالقول أن العمل لم يعد وضعا ماديا خارجا عن الإنسان، ودون علاقة بمصيره الفعلي، وإنما جوهر وجوده. فريدريك إنجلز سيفسر بالعمل نظرية داروين في تحول القرد إلى إنسان. ومهما اختلفت المدارس الفكرية الليبرالية والاشتراكية، فقد شكل العمل قاسمها المشترك الأعلى. بهذا المعنى، طرحت الحضارة الغربية العمل كقيمة عامة وعالمية، لا تتموضع في دين أو دنيا، في مركز أو محيط، في لون أو عقيدة أو إيديولوجية، في جنس أو كون.. ومع إعادة تعريف العمل تمت إعادة تعريف الأفراد وعلاقتهم بالجماعة والدولة.

دخلت الثقافة الغربية الأقوى فكرة الشخص باعتبارها نتيجة لمسار تغيرت فيه أنماط التعرف على الذات مع التغيرات العميقة في التنظيم الاقتصادي والسياسي والرمزي للعلاقات الاجتماعية. بدأ هذا الشخص من جنس الرجال أبيض اللون، أوربي المنشأ، مدني الحقوق في الدولة-الأمة كمشروع تاريخي ترى فيه الأمم الأوربية نفسها باعتبارها المركز، المصدر والمرجع الأسمى للآخر. هذا الآخر نادرا ما استحق مصطلح الأمة الذي تم حصره في الدول "المتحضرة". يذكّر بذلك تايلور في استعراضه لولادة مفهوم الإثنية (3) (من اليونانية فاللاتينية ethnos) الذي تم توزيعه بكرم حاتمي على الشعوب المستعمَرَة. وفي حين تشكلت الأمم الأوربية في عنف اقتصاد السوق والحروب، وجدت "الإثنيات" الجنوبية نفسها في مركز الشك بين شيفرات إن لم تكن دائما قابلة للفك والتفسير، فهي قابلة للتغيير ضمن علاقاتها بمكوناتها والمهيمن الدولي والجوار. لكن مع صور تكلّس تظهر للسطح دور إغلاق تكوين متميز محدد، في عمليات السيطرة وإعادة السيطرة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.

إلا أن الحضارة الغربية التي غزت العالم بالبضاعة والمطبعة والمدفع، أو لنقل الثورة الصناعية وعصر التنوير والاستعمار بأشكاله المتتابعة، تعاملت مع هويتها الخاصة باعتبارها الهوية، مع ثقافتها القومية باعتبارها الثقافة الإنسانية، مع عمليات إنتاج المعرفة فيها باعتبارها المعرفة العالمية. من هنا تحولت أشكال تفسيرها لعالمها الخاص إلى صيغ قاصرة عند التعامل مع عوالم أخرى، وتحولت أشكال النضال الفكري فيها إلى إيديولوجيات خارجها.

ليس هناك من ضرورة لتحميل أبو البقاء الكفوي والجرجاني ما لم يجل بخاطرهما وهما يتحدثان عن "الهوية". ولعل الملاحظات الأبرز في الكتابات التاريخية الإسلامية، تلك التي يقدمها ابن خلدون في مقدمته عن دور الوظيفة في أية علاقة اتصال والتحام وتمايز. سواء لغاية الغلبة والسلطان والقهر أو بهدف الدفاع عن الذات.

جمع عصر التنوير في مشروعه التأسيسي بين الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي والتحرر من السحر وإقرار تفوق الإنسان بالمعرفة. قطيعة التنوير مع التاريخ المسيحي الأوربي وظلمات القرون الوسطى اعتمدت مبدأ نهاية عصر الإنسان القاصر. نصبت العقل أسطورة جديدة والمعرفة سلطة قادرة على التعيش، ليس فقط من الإنتاج الفكري والمادي الخصب الذي أطلقت عقاله الثورة البرجوازية-المدنية، بل ومن الظلم و"عنف التحيز" في العلاقة مع الآخر كما يذكّر ميشيل فوكو. سيحاول ماركس إعطاء الاقتصاد صالون الشرف في تفسيره للعالم. "المجتمع، يقول ماركس في مخطوطات 1844، -كما يبدو لرجل الاقتصاد السياسي- هو المجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعة من الاحتياجات، ولا يوجد بالنسبة للشخص الآخر –كما لا يوجد الآخر بالنسبة له- إلا بقدر ما يصبح كل منهما وسيلة للآخر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تماما كما تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديد حتى يصنفه كرأسمالي أو عامل.".(4) الطبقة هي التعبير الأهم للهوية، وصراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ. القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي تعانق مجموع مظاهر المجتمع الحيوية، ولأول مرة في التاريخ يخضع كل المجتمع لتطور اقتصادي يكون وحدة.

لا تخلو كتابات ماركس من ازدراء واحتقار لأشكال الانتماء ما قبل الرأسمالية ولو أنها لم تشكل موضوع دراسة له في ذاتها. لنستحضر مثلا هذا التعريج في إسهامه في نقد فلسفة الحق: "يا له من مشهد ! إن التقسيم اللا متناهي للمجتمع إلى مجموعة من الأعراق Rassen التي يعارض بعضها بعضا بكراهياتها السخيفة، بضميرها المؤنب، بضحالتها الفظة، والتي بسبب الموقف الملبّس والمشبوه لكل عرق إزاء الآخر، يعاملها أسيادها، كلها وبلا تمييز، على أنها كائنات مسموح بوجودها، ولو أنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا مختلفة. حتى واقع كون تلك العناصر مقهورة، محكومة، مقتناة، فإنها مجبرة على اعتبار ذلك وإعلانه هبة من السماء!"(5)

باعتباره النقلة الأوربية ثورة جزئية، سياسية فحسب، في مقابل ثورة البروليتاريا الجذرية والشاملة، وضع ماركس أسس المقاومة للنظام الجديد من داخله وخارجه، فليس للطبقة العاملة وطن، ولن تستبدل طبقة بأخرى بل ستؤرخ لنهاية التاريخ الطبقي وبداية التجمع الحر للأفراد.

لم يجد ماكس فيبر عند ماركس ما يرد على أسئلة جوهرية تتعلق بتشكل وتفتت الجماعات القديمة والجماعات المدنية الجديدة. كما أنه لم يعثر على ما يشفي غليله في تكون تجمعات المصلحة في الفصل التعسفي بين ما سمته الماركسية التقليدية بالبنية التحتية والبنية الفوقية.

من هنا، يعتمد فيبر في قراءته لصيغ الفعل المفهوم بشكل عقلي أولا، الصيغ التي نسميها اليوم بالعضوية والتي استعمل لها تعبير Vergemeinschaftung. تلك التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على المشاعر الذاتية (تقليدية كانت أو عاطفية) للانتماء إلى صيغة جماعية. وهي تشمل نمطين كبيرين يتضمنان صيغتين للرابط الاجتماعي: الأولى ترتكز على قوة التقاليد من روابط تمر عبر النسب والميراث الثقافي، وتلك الناجمة عن التمايز الجماعي والعاطفي حول شخصية كارزمية، حقيقية كانت أو وهمية.

ثانيا، الصيغ المجتمعية Vergesellschaftung التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على التوافق وتناسق المصالح بشكل عقلاني كقيمة وكغاية. وهي تضم نمطين : 1- العلاقة بالقيم وعقلانية الفضيلة، الأمر الذي يعني توافقا عقلانيا في التزام مشترك. 2- علاقة مرتبطة بوسائل لغاية تفرض نفسها بنفسها كالمصلحة الاقتصادية بالتبادل التجاري أو المنافسة من أجل أوضاع معيشة أفضل والتجمع الطوعي للأفراد للدفاع عن مصالحهم.

كما يوضح كلود دوبار، يتبنى ماكس فيبر أطروحة وجود عملية عقلنة تعطي للشكل الثاني الغلبة على الأول دون أن يلغيه. في هذا النطاق، لا يمكن أن نخرج من ماكس فيبر دون الحديث عن "الأخلاق البروتستنتية وروح رأس المال"، عن زواج العقل والمصلحة بين الزهد الطهراني والمبادرة الرأسمالية: حين يصبح تضييع الوقت أولى الخطايا وأكثرها خطورة، ويشكل العمل الغاية التي حددها الله للحياة.. المهنة هي السبيل لخدمة الرب، ونجاح الشركة علامة قيام بالواجب الديني..(6). لعل في هذا التحليل المبكر ما سيعطي صموئيل هنتنغتون المادة الأولية لقراءة متأخرة لهذه الظاهرة في كتابه "من نحن" الذي سنتعرض له.

ستتناول مدارس التحليل النفسي عملية التمايز والهوية الشخصية في المجتمع الغربي. إلا أن نوربرت إلياس سيأخذ حيزا هاما في تناول ظاهرة الهوية في الثقافة الغربية المعاصرة.

يقوم تحليل إلياس على "هوية نحن-أنا". لا يوجد هوية أنا بدون هوية نحن، والهوية لا تخرج عن عملية تاريخية وحضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد. فالمجتمع يتكون من ممارساتنا وعلاقاتنا المتبادلة، وإن لم تكن هذه العلاقات "حرة"، فهي ليست قوى طبيعية. لا يوجد الفرد إلا في مجتمع، ويتوقف التفرد على نمط التنظيم الاجتماعي. لذا يجب القطع مع منطق الجواهر المعزولة والانتقال لتأمل حول العلاقات والوظائف. "سيرورة الحضارة" هي التعبير الذي سيعبر معه إلياس عما يسميه "سيرورة التفريد" التي تنتقل بالبشر من الأشكال الأولى لتمايز الجماعات على أساس روابط الدم والدين واللغة والتقاليد. وإن تبدو معطيات ما قبل الحضارة الغربية المعاصرة غير واضحة المعالم والدلالات، فحسب إلياس مركزة السلطة في دول من نمط جديد يفترض احتكار العنف الشرعي وجمع الضرائب من قبل أمراء صاروا رؤساء دول. سيجعلهم يبتكرون المراقبة الذاتية على النفس كوسيلة تضمن سلطانهم. بحيث ترافقت العملية السياسية بتحولات نفسية بالغة الأهمية: الحصر الداخلي المتصاعد للعواطف والتحول من العدوانية الموجهة للخارج إلى دفع موجه نحو الداخل. ويعود التشكل البطيء للأنا النفسية كموضوع أخلاقي إلى الصعوبات التي رافقت تشكل الدولة الحديثة. هنا يجري الحديث عن المركزة السياسية والتعقيد في الأوضاع الاجتماعية والكثافة المادية والأخلاقية في المجتمع باعتبارها جزء لا يتجزأ من ولادة معتقدات جديدة فلسفية ودينية.

لقد فرضت الدولة-الأمة نفسها بالتدريج كصيغة غالبة للنحن المجتمعية في أوربة. وتمتع صعود الفكرة القومية بشرعية متصاعدة للهوية القومية باعتبارها الصيغة السائدة للهوية منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الماضي. لم تتشكل عملية "الوعي" القومي دون مخاضات مؤلمة في السيف والوعي. إلا أنها وبقدر ما كانت تتبلور في إيديولوجيات بقدر تركت الباب مفتوحا أمام كل تعبيرات التطرف. فباسم القومية الأكثر "نقاء" وعنفا وشمولية سترتكب جرائم ضد الإنسانية بشكل لا سابق له في التكثيف المكاني والزماني في حربين كونيتين. إلا أن مسيرة الدول منذ منظمة الأمم المتحدة تتوجه نحو (نحن) معولمة. الإنسانية كانتماء مشترك، مترافقة بتعزيز المطالب الإثنية والقومية والدولانية والاعتقادية: (نحن) محلية منظمة في دولة شرعية أو جماعة ثقافية. و(أنا-بالجمع) تتميز عبر جماعتها الثقافية أو المحلية. يبقى أن مصدر الخوف يكمن في تلك الاستمرارية الضمنية، في الثقافة الغربية لتمثل النحن والآخر في منظومة تمايز وتفاضل تشكل بالضرورة عنصرا في تعزيز أشكال الانتماء المحلية باعتبارها وسائل دفاع ذاتية. نوربرت إلياس يتناول هذه المشكلة في كلمة "المتحضر" في التاريخ الأوربي:

"نحن من جهة، البرابرة من جهة أخرى (قبل المسيح)،

المسيحيون من جهة، الوثنيون من جهة أخرى (قبل الهرطقة الدينية)،

المتحضرون من جهة، وغير المتحضرين من جهة أخرى (منذ 1530)،

الحداثيون من جهة، والتقليديون القدامى من جهة أخرى (منذ 1830)،

الجماعة تحمي نفسها دائما بنوع من التفوق الذاتي في تحديدها".



عودة إلى المنسيين

القبيلة، الاثنية، الدولة والدين كلها كانت عوامل فبركة وإنتاج لهويات امتلكت قوة التواجد على اختلاف الامتداد في الزمان والمكان. ولا يمكن الحديث عنها باعتبارها أنماط صافية للجماعات البشرية. فالهوية أيضا سيرورة وبالتالي أزمات. تتكون الهوية عبر أزمات وليس العكس، كونها حركة تتكون عبر الأزمات. بالتالي، ورغم أن أساسها المفهومي قائم على الثبات، فهي في تغير دائم، سريع، أم بطيء، بعوامل ذاتية أو خارجية لا يهم. المهم هو أن عمق أي شعور بالهوية قضية نسبية في المطلق. وفكرة الجمود في الهوية، التي قادت اليسار التقليدي للخوض في مواجهة نظرية وسياسية بين الحرية والهوية، المواطنة والانتماء، النحن والآخر، هي ابنة أحكام مسبقة وثنائيات تحتضر لم يعد لها من معنى إلا لتفسير واقع إيديولوجي نمطي صنعه المثقف والسياسي.

في حين تشكلت الهوية القومية في عملية إعادة تكون داخلية للدولة والمجتمع، كانت الهوية القومية في العالم العربي وليدة ظروف أزمة، بل لنقل بدقة أكثر حالة اغتصاب. لقد جرت محاولة القطيعة مع الأنموذج العثماني في ترجيح للمفهوم الغربي لا في تشجيع لإمكانية استنباط محلية تنجم عن فك الاستعصاء التاريخي. لنأخذ مثل الجنسية والنقابات والمحاكم، لم يجر هضم كاف لهذه المؤسسات في مجتمعاتنا، وبالتالي بقيت بعيدة عن الإحساس الشعبي ومصطنعة بالنسبة للكثيرين. كما ولم يمتنع البعض عن رهن وجودها والتخلص منها بالمستعمر مهما كانت محاسنها. بدون كمال أتاتورك قطعت مجتمعاتنا مع العديد من الهياكل التاريخية من فوق حتى في غياب كوادر مؤهلة لذلك. الأمر الذي يذكرني بأحزاب معاصرة ومنظمات غير حكومية تتحدث عن انتخابات ومراقبة انتخابات وليس لديها العدد الكافي لمراكز الاقتراع في مدينة واحدة، وتطالب بسلطة البروليتاريا في بلد لم يدخله التصنيع بعد. الأمر الذي خلق فجوة بين المؤسسة الحديثة والمجتمع. باعتبار هذه المؤسسات لا تلتقي في القراءة العفوية الأولية مع مصالح الناس.

هذه الفوضى في الهوية والمؤسسات والانتقال بين حقبتين ونمطي إنتاج مختلفين خلقت فراغا هائلا في التكوين السياسي للبشر. من ذلك استفاد جيل كامل استطاع التنفس في ظل الليبرالية الاستعمارية التي أعطت الناس هامشا سياسيا وثقافيا سمح لهم بالتأهيل الذاتي والتكوين المعرفي بشكل يفوق بكثير تأهيل جيل حالة الطوارئ الذي عرفناه. الأمر الذي وفّر تدارك فجوات كبرى في طموح كبير لكسب معركة الزمن والبلوغ الضروري لبناء مستقبل مختلف. إلا أن دولة الاستقلال القطرية جاءت وليدة عوامل تعسفية أو بمحض الصدفة، كما يقول محمد حافظ يعقوب (7). وصار السؤال المركزي: كيف يمكن بلورة هوية سياسية وثقافية ضمن حدود خضعت إما لإرادة موظفين من الدرجة الثانية في الإدارة الاستعمارية أو نتيجة لموازين قوى رجحت هذا الاتجاه أو ذاك؟ وحده الشعور الجماعي للمجتمع السياسي الجديد بالانتماء إلى قضية كبيرة واحدة كان وراء التماسك الضروري لإنجاز الاستقلال الأول، أو التخلص من نفس القيود وتجاوز نفس الإشكالية (الاستعمار المباشر).

لذا لم يكن الرعيل الأول ابن ما يسمى بالنهضة وحسب، بل ابن الهوية الأكبر التي تسمح بالإطلال على العالم والعيش بالبعد الإنساني، أو على الأقل الكوني. هذا الرعيل أسس لحركة وطنية دينها العلم تعتبر معركتها في اللحمة الوطنية، أي قبول مكونات المجتمع السياسي كافة، وبرنامجها في فتح المدارس وتعلم الناس ومكافحة الهيمنة الخارجية. لم يحمل جيل الاستقلال مكارم هذا الجيل عندما جعل من الدولة الوطنية المفصّلة على مقاس مستعمريها دولة تدخلية في مواجهة مفتوحة مع المجتمع، وبالتالي في موقع معاد بالضرورة للأمة. عندما لم يعد بالإمكان تحقيق الشرعية السياسية من تحت، صار بإمكان التجمعات الحاكمة الجديدة الذهاب بعيدا في فرض تصورها مع قناعة واعية أو غير واعية تعتبر أن الوصول إلى السلطة يسمح لها بإعادة فبركة الهوية السياسية للناس على أنموذجها المسخ.

تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية. ليس لأن الهوية الثقافية هي المعبر عن مصالح الجماعة، ولكن لأنها أصبحت في الصراع غير المتكافئ على السيطرة والهيمنة في العالم. الوسيلة الأكثر اقتصادا لبلورة برنامج متميز للجماعة، برنامج يختصر كل مسافات الابتكار السياسي والتجربة والخطأ والطرق المجهولة المآل. لكن حامل هذه الثقافة وهذه الهوية هو ابن القرن الواحد والعشرين، وليس من أهل الكهف. وبالتالي فهو يحمل في أعماقه كل معالم الصراع بين الاتكاء المريح على عنجهية الخطبة، والمواجهة الفعلية مع عنجهية القوة، الانكفاء على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، قوة التعبئة التي تمنحها الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية. لذا يمكن القول أن الهوية السياسية الدافع والغرض هوية متحركة متعددة المشارب قادرة على التجدد بشكل أسرع من الهوية الثقافية. وهي ابنة أوضاع أكثر منها ابنة ذاكرة جماعية وفردية ضرورية الاستحضار. من هنا شكلت أشكال الانتماء السياسي الترجمة الأكثر صدقا لمعطيات العصر، مهما كانت المرجعية الثقافية والرمزية لها. الأمثلة على هذا لا حصر لها، ولعل أكثرها بلاغة مفهوم التنظيم اللينيني عند حسن البنا، الهوية القومية الغربية في الاتجاهات القومية العربية، استنساخ النموذج الستاليني في نظرية الدولة عند المودودي. ليس فرج الحلو بل مصطفى السباعي من قال "لا أعتقد أن الاشتراكية "موضة" ستزول، بل هي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور". من يستطيع إغفال التقاطعات المركزية بين الحزب القومي القائد والحزب الثوري وحزب الله المخلّص في زمن حالات الطوارئ التي أنجبت إيديولوجيات الطوارئ؟ أين البعد التقدمي لليبرالية العربية في بداية القرن العشرين كمشروع اجتماعي وسياسي تحرري من أفول التعبيرات الليبرالية العربية بعد قرن باعتبارها الترجمة الأمينة للجري الذليل النفس والروح وراء أفول المنابع؟

الانتماء القومي في الخمسينات، كان يعني التخندق في أتون حركة التحرر الوطني التي تجاوزت الثقافة القومية والاعتقادية. أما أن تكون شابا ماركسيا في العالم الثالث في 1968 فهذا يعني فيما يعني أن تكون ابن عصرك. أن تكون إسلاميا في الحقبة نفسها يعني أن ترد على عصرك وظروفك. الجيل الذي تلا تلك الحقبة، اجتمع عنده الانتماء الإسلامي والانتماء للمحيط والرد على العصر قبل أن يضع صلب عينيه، من دروس الواقع ومقتضيات الحياة، أن الانتماء للعصر لا يتعارض بشكل جوهري مع الانتماء للإسلام. لذا حطم الكومبيوتر في أيام الثورة الإيرانية الأولى ثم عاد ينظم دورات تعليمية في التكنولوجيا الحديثة وصولا لحوار الحضارات... في الجبهة العلمانية، كان هناك أغلبية تصر على القول أن العلمانية هي الكل، الإسلامية هي الاستقصاء. في كتابه، "مؤمنون أو مواطنون" يحاول محمد حربي التأكيد على هذا المعطى: المواطنة لا تمنع الإيمان، الإيمان يقيدها.. الواقع كان مختلفا تماما، العلمانية الإستئصالية همشت بل نبذت الإيمان. أما الإسلام السياسي بتياره العريض فقد تعلم من ضربات الواقع معنى التحرر من فكرة الحزب الواحد المخلص القائد التي أشعره القمع وخصمه السياسي والإيديولوجي ليس فقط بهزالتها، بل بالقرف منها. بهذا المعنى كان التعسف الذي عانى منه مدرسة للتسامح وإعادة اكتشاف الذات وقبول الآخر.

في حين لم ير عدد من المثقفين في السماح للحجاب في بعض الدول الأوربية إلا الإحراج الذي تسببه لدول كتركيا وتونس، كان علمانيون وإسلاميون رافضون للنظام التسلطي في تونس والميراث العسكري في تركيا يروجون أكثر فأكثر لفكرة حرية الاختيار في السفور والحجاب في تركيا كما في إيران. بدأت إذن بالتشكل معالم سياسية لهوية أكثر تماسكا ترى في المواجهة الدائمة بين المواطنة والإيمان حربا أهلية في الكلمة والواقع. ولعل هذه الثغرة في الإنتاج المشوه لحالات الطوارئ تترك الأمل في إمكانية وضع حد لآليات تدنيس الوعي.

الهوية، (بالمعنى الجمودي والساكن والمتمترس وراء حجاب العقل والرافض للثقافة باعتبارها محرك التجديد المجتمعي والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج وابتكار الذات)، لم تعد سوى أنشودة الحماس في لحظات الاعتداء على شرف الأمة. الحركة، التغيير والقدرة على استنباط صورة الغد يحدثنا عنها "المثقف" محمد خاتمي بالقول: "التراث، كما هي الحضارة، شأن بشري يستحق التغيير وإن آمنا بأبعاد ثابتة في مجال حياة الإنسان المعنوية والعقلية والإرادية، فإنه يجب القول، بأن جانبا مهما، إن لم نقل جميعه، مما نصطلح عليه بالتراث، هو نتاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضة للتغيير وليس مقدسا وخالدا"(8). لا يختلف هذا الطرح كثيرا عن مأثورة عصام العطار: "كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله.. باستمرار لابد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال.. وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد"(9).

يبقى من الضروري التذكير بأن الناس يرفضون الشعور بأنهم في أزمة، لأن الهوية عند غالبية البشر أيضا عنصر اطمئنان بامتياز Par excellence، لا بالعقل. ويمكن القول بأريحية أن هناك من يعيش ويموت دون أن يشعر بأنه في أزمة، كالإنسان الذي ينام أقل من حاجته الفيزيولوجية في اليوم ولا يشعر بالإصابة بأي نوع من الأرق. ففي عالم أصبح الخوف فيه إستراتيجية هيمنة وسيطرة للقوة الأعظم، يمكن القول أن البحث عن عناصر اطمئنان ذاتية تصبح الملاذ الضروري للأضعف. لكن هذا الملاذ يحمل كل التناقضات التي دفعت بالجماعة إلى التراجع نحو عناصر يمكن التعرف عليها بسهولة والاطمئنان لها بعفوية.

هناك أيضا إشكالية كبيرة تواكب ولادة وحالات إنضاج واحتضار الهويات.. فكل محاولة دمج لمجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلها إلى هوية واحدة، هذه المشاريع المحددة سلفا لرسم معالم هوية جديدة، تحمل كل مخاطر القمع الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل مباشر أو غير مباشر. إنها تزرع في اللاوعي صدمة الإكراه التي تجعل احتمال ولادة كائن مسخ، ذي هوية مضطربة وغامضة، باعتبار أن الهوية تخلق على امتداد زمني يقيم ويُسقِط. إلا أن هذا السيناريو المنطقي ليس حتمية واحدة. فقد تتجدد أشكال الانتماء وتتصارع إلى أن تصل إلى تعريف واضح ومحدد لهويته الثقافية والقومية التي تعبر عن مصالح أغلبية اقتصادية واجتماعية وثقافية في زمن ومكان محددين. كما يمكن أن تكون مجرد وسيلة دفاع مؤقتة ومحلية في معركة الدفاع عن حقوق جماعية أو فردية. وإما العكس، أي استغلال جماعات بشرية أخرى وأوضاع محددة.



مداعبة العنصرية

في كتابه Who Are We? (11) يدخل صموئيل هنتنغتون عالم الهوية من بابه الأضيق. ولعله في هذا الكتاب يقوم أكثر بعملية تحليل ذاتيautoanalyse بالمعنى النفسي، أكثر منه تحليل أكاديمي بالمعنى الجامعي الذي حاول إضفاءه على أطروحاته حول النظام السياسي وتغيير المجتمعات، أزمة الديمقراطية وأخيرا، صراع الحضارات. فمن جهة، يحاول التربع على كرسي التفوق الأمريكي بعد الحرب الباردة، ومن جهة ثانية، يتقمص أكثر أشكال التعبير عن الهوية انغلاقا. وكأنه يريد عبر ما يقول أن يعكس موضوعة ابن خلدون خالقا حالة ولع للغالب بتقليد أسوأ ردود الفعل عند المغلوب.

يعود هنتنغتون إلى فكرة دافع عنها منذ 1968 تقوم على الطابع الخاص والمتميز للتجربة الأمريكية الذي يصعب تكراره أو استنساخه : " ليس للتجربة الأمريكية أن تقدم الكثير للدول السائرة في طريق الحداثة، لم تكن الثورة الأمريكية ثورة اجتماعية كما هو حال الفرنسية والروسية والصينية، المكسيكية أو الكوبية، كانت مجرد حرب استقلال. ولم تكن حرب استقلال يقودها السكان الأصليون، بل الفاتحين الأجانب، حرب المستوطنين ضد بلدهم الأصلي." (12). هذه الفكرة يتابعها في رفضه لاعتبار الولايات المتحدة مجتمع من المهاجرين متعدد الأعراق والإثنيات والثقافات. ليعود للتأكيد على أن الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة هي مشروع المستوطنين الأنجلو بروتستانت الذين ألبسوا الدولة ومؤسساتها وثقافتها السائدة ركائز أساسية أولها الرجل الأبيض، ثانيها الثقافة الأنجلو بروتستانتية والدين المسيحي البروتستنتي والإثنية الإنجليزية. هذه الركائز تعززت حتى نهاية القرن التاسع عشر بالحروب الإجبارية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد الهنود الحمر والمستعمرين الأوربيين والحرب الباردة. كون العداء للآخر كان أحد قدمي التجربة الأمريكية وكل محاولة لتشكيل هوية الجماعة. باعتبار أن القدم الثانية تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية وسيادة حكم القانون كعنصر قطيعة وتمايز عن الثقافة الإقطاعية في أوربة والتي كانت سببا رحيلهم الواسع والنهائي.

لقد شكلت هذه الثقافة بمقوماتها الأربعة عنصر استقطاب ودمج للجماعات الأخرى الأقل حجما. إلا أن التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات أعاد بناء الجسور بين المهاجرين الجدد وبلدانهم وثقافاتهم الأصلية. الأمر الذي يقف عائقا دون اندماج سريع ويهدد بقاء الهوية الأمريكية واستمرارها. كما أن تكوين هويات فوق قومية مع العولمة وزيادة نفوذ "الليبراليين اليساريين" ذوي الثقافة التعددية يساعد على نمو هويات فرعية على رأسها اللاتينيين الأمريكيين والأفارقة السود.

في كل هذا، هنتنغتون منسجم مع فكرة يدافع عنها منذ أكثر من عقد زمني، تقول أنّ العوامل الإتنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسّسية تحلّ مكان الأيديولوجيات السياسية كعناصر أساسية في هويّة الشعوب والدول. وفي مختلف أنحاء العالم بدأ الناس يحدّدون هويّتهم أكثر فأكثر من خلال عضويّتهم في مجموعات إتنية أو طوائف دينية أو مجموعات لغويّة أو تاريخية. تتحوّل السياسة المحلّية إلى سياسة الإتنيّات في حين أنّ السياسة العالمية تتحوّل إلى سياسة الحضارات التي هي أوسع مجموعات ثقافية يتماهى الناس معها. هذه الفكرة لا بد لها من ترجمة محلية، لأن الصراع الحضاري للولايات المتحدة مع غير الغربي لا يغير شيئا في أن هذا الصراع يبدأ من المجتمع الأمريكي نفسه وعبر مكوناته.

وكما يختصر علاء بيومي (13)، يعتبر هنتنغتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحدة من التبعات الأربعة التالية على الهوية الأميركية في المستقبل:

أولا: فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأميركيين، لكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه.

ثانيا: تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية (إنجليزي-إسباني) بفعل زيادة أعداد و