د. عبدالعظيم كريمي
المراد بمبادئ التعليم والتربية، البحث عن مفاهيم ثابتة ومستقلة تنسجم مع الأسس العقلية والمتطلبات الاجتماعية. وهي المفاهيم أو المفردات التي يمكن بواسطتها تربية الأبعاد المختلفة للشخصية.
من مستلزمات مبادئ التعليم والتربية أن تكون فاعلة ومتحركة، ومتفاعلة أيضاً، بحيث يمكن اكتشاف جميع العناصر من خلال التعامل مع المتربي.
من الوظائف الأساسية للتربية الحديثة هو أن يقوم المعلم بإيصال العمل التعليمي أو العملية التربوية إلى مرحلة يصبح فيها المتربي في غنىً عن المربي. لذلك يتضح مدى كفاءة المعلم في مدى استغناء المتربي عن المربي.
على صعيد آخر، نظراً لاقتران وجود الإنسان بأنواع التناقضات رغم وحدة ذلك الوجود، لذلك قد يؤثر عليه الكلام في بعض الأحيان، ولا يؤثر عليه في أحيان أخرى، وذلك لوجود قوى واستعدادات مختلفة لديه، فتُبدي ردود فعل مختلفة باختلاف المقتضيات والأحوال. لكن المهمة التي ينبغي على نظام التعليم والتربية القيام بها هي ايقاط وتربية وصقل جميع استعدادات الإنسان وطاقاته المفيدة، والتنسيق بين هذه القوى والاستعدادات، أي:
أ‌. التنسيق بين القوى الذاتية لفرد ما وازالة التناقضات الكامنة فيه، من خلال خلق القابلية على مجابهة هذه التناقضات والعقبات، وتفسير مشاكل الحياة وصعوباتها.
ب‌. تفعيل القوى المنسجمة وتوحيدها من أجل قطع طريق النمو.
ت‌. التنسيق بين الأجهزة الفاعلة في عملية التعليم والتربية مع الحفاظ على هويتها المستقلة.
ث‌. قانون التربية معناه الانصياع لطبيعة الطفل واعداد الظروف والمناخات الموائمة لتربية الطفل كما يستطيع وليس كما يشاء أو كما نشاء.
اضف إلى ذلك، لابدّ من الاشارة إلى أمر آخر وهو ألا نتخذ من مبدأ واحد ثابت مصدراً للأعمال التربوية، وإنما ينبغي أن تنسجم الأصول التربوية مع الظروف والبيئة، والزمان، وأن ينطبق معها أي شيء يضاف إلى المحيط، فضلاً عن تطبيق المحيط عليها. وفي مثل هذه الحال يتضح الحد الفاصل بين "التكييف" و"الانسجام"، لأنّ العملية التربوية عملية داخلية وارادية وفاعلية. ووردت هذه الفكرة في كتاب "التربية عند الايرانيين"، نقلاً عن افلاطون. فهو يعتبر التربية استخراجاً للقوى الباطنية لروح الإنسان.
على ضوء هذه الآراء يمكن القول ان التعليم والتربية عملية باطنية وفاعلة تستوعب اكتشاف القوى الإنسانية الخلاقة وتفعيلها.
لابدّ أن نعلم انّ هناك عملية مجابهة مستمرة بين القوى الخلاقة والقوى المخربة أو القوى الإلهية والقوى الشيطانية عند الإنسان. ومن مهام التربية الحقيقية اكتشاف القوى الخلّاقة وتربيتها وتفعليها من أجل الحد بنفس المقدار من اتساع وتأثير القوى المخربة المفسدة.
إذن لابدّ للمعلم أن ينطلق لتربية الإنسان وهو يحمل فكرة أن الإنسان ذو فطرة سليمة خيرّة. ولذلك يقول المربي السويسري "بستالوزي". انه لو نُظر إلى الإنسان على أنه ذو طبيعة سيئة، فهذا يؤدّي إلى اغلاق طريق الخير والصلاح بوجهه. فينبغي على العملية التربوية القيام بازاحة العقبات، وتوفير مستلزمات النمو الطبيعي.
من المهام الأخرى التي تترتب على التعليم والتربية، "تربية شخصية الإنسان واعداده للتعامل الصحيح مع حوادث الحياة". ويقول "فروبل" بهذا الشأن: "لابدّ لعملية التعليم والتربية أن تجعل الإنسان يعي أولاً ذاته وما هو كامن في وجوده، وأن تجعله يتكيف مع طبيعته، كي يصبح قادراً بعد ذلك على الاتحاد مع ربه".
لا ريب في الإنسان إذا تميز خلال ذلك التعامل مع الحياة والمصادر الاجتماعية المتنوعة، بفكر عميق وصحيح، فستكون لديه القابلية على الانتخاب الأحسن، الذي ينسجم مع قواه الجسمية والنفسية، والامكانات الزمانية والمكانية. والفرص الاجتماعية.
إذن فالتربية مؤثرة جداً على تحقيق الحد الأعلى من التطوّر، والتكامل والسعادة للإنسان، ومن ثم انعكاس ذلك على المجتمع بأسره، حيث تدفع الآخرين أيضاً للمساهمة في تلك السعادة.
يعتقد المربي الألماني "ارنست كريك" انّ الإنسان يتربى تلقائياً وعن غير قصد. أي أن التربية لا تقوم على منهاج معدّ سلفاً، بحيث يتربى الفرد على ضوئه منذ البداية من دون ارادة ورغبة.
من جانب آخر يعتقد "كرشن اشتاينر" انّ العمل التربوي القائم على التبعية، ينبغي أن يُعدّ الفرد لتربية مستقلة. فالمربي لا يستطيع أن يضع هذا الهدف بعيداً عن عينه. فمن الممكن تربية الشخصية عن طريق السعي الدائم لدفع الشخص من دائرة القيم المقيدة إلى عالم القيم المطلقة. وتسعى "المدرسة الفعالة" لتوجيه نمو الشخصية في هذا المسار.
المبادئ التالية المقتبسة من كتاب "أصول التعليم والتربية" والتي تعبّر عن نظرية "اشتاينر" التربوية، تكشف عن تعقيد العملية التربوية وتضاربها:
مبدأ الفعالية: دع أي عمل – ما كان ذلك بوسعك مع رعاية الوضع النفسي – للنشاط الحر لتلميذك. فاترك – ليس تطوّر العمل فحسب – بل العمل المنجز أيضاً، إلى روح البحث الدقيقة عند الطفل، إلى الحد الذي يسمح بذلك شكل العمل الشخصي ومادته.
مبدأ الاجتماعية: احرص على أن يحقق تلميذك ليس الاستقلال الأخلاقي الشخصي فحسب، وانما أن يساعد المجتمع كي يتطور أخلاقياً عن طريق نشاطه الحر أيضاً.
مبدأ الفردية: ينبغي وجود تشابه كامل أو جزئي على الأقل في التركيبة المعنوية بين المتربي والرصيد الثقافي، كي يكون هذا الرصيد الثقافي مفيداً في التربية.
يُستفاد من هذه المبادئ انّ حجر الزاوية في العملية التربوية هو تربية الفردية، وروح الاستقلال، وترك زمام الأمور إلى المتربي، كي ينال التطوّر الأخلاقي والاجتماعي من دون الشعور بالحاجة إلى المربي.
يقول "بستالوزي":
"لقد أخفت الطبيعة في الإنسان المواهب والقابليات الأفضل كاختفاء الجواهر في الأصداف. لذلك لو حطمت الصدفة قبل أوانها لرأيت الجوهرة غير مكتملة بعد".
يبدو انّ جذور معظم الاختلالات التربوية والسلوكية التي نشاهدها عند الأطفال، نابعة من حالة الاستعجال التي قد تأخذ طابع الحرص والعطف، ومن التدخلات التي لا تحسن عملية التوقيت.
يبدو أنّ هذا الاستعجال الطفولي للكبار، يترك آثاراً سيئة ويعطي نتائج معكوسة تؤثر سلباً على شخصية الطفل وفي أية خطوة تربوية، لأنّ تلك الخطوة منبثقة من ذهن المربي فقط، وغير مرتبطة بطبيعة الطفل وقابلياته. ويمكن ان نلمح أمارات هذا الاستعجال بشكل واضح في الأعمال التربوية التي تنهض بها المدارس. حتى انّ بعض مدراء المدارس ومعلميها يسعون جاهدين لفرض اذواقهم ورغباتهم على الطلبة، لكنهم لا يحققون هذا الهدف مهما اصروا على هذا اللون من السلوك التربوي.
اذن التربية القائمة على الصبر، والانتظار، واكتشاف الفرص، اكثر تأثيراً من التربية القائمة على الفرض، والقسر، والنقل.
يقول"روسو": "اذا ما اراد المرء ان يكون صالحاً ومتقياً فلن يحتاج في ذلك الى العلم والفلسفة. ولن يحتاج الى معلومات من قبيل الالهيات لاختيار السلوك الذي يريده. فلو رجع كل شخص الى ضميره واستشاره بصدق؛ فسيُلهم الطريق والسلوك الذي ينبغي ان يتخذه".
ويقول في موضع آخر:"لا يُفسد التقوى شيء مثل العمل بها لمصلحة مادية. عليك ان تتذكر دائماً انّ الجهل لا يُلحق الشر، وانما يُلحقه التخبط والخطأ. والانسان لا يضل لأنه لا يعرف، وانما يضل حينما يتصور انه يعرف".
اذا لم نعرف شيئاً عن التربية، ولا تتوفر لدينا معلومات عن كيفية التربية، فاننا لن نتضرر بحجم الضرر الذي يلحقه الفهم الخاطئ للتربية. اي انّ المعلومات التربوية الخاطئة التي نمتلكها، تشكل خطورة اكبر بكثير مما لو كنا جاهلين بالمعلومات الصحيحة. وهذه الفكرة تنطبق مع قول الرسول الا كرم محمد(ص): "اني لا اخاف عليكم فيما لا تعلمون".
اذن الجهل بشيء ما، وعدم القيام بعمل ما، ذو خطر اقل من المعرفة الغلط، والعلم الضال الذي يلحق الضرر بالمجتمع والفرد، سيما اذا كان صاحبه يصرّ على انه يعلم العلم الصائب الصحيح!
التربية تمهد طريق ظهور الفطرة، وتفتح أبواب ظهور الدين، والصدق، ومن ثم الفضائل الأخلاقية. لذلك ليس من الصحيح ادخال هذه السجايا الحميدة الى ذهن الطفل من الخارج، وانما ينبغي توفير الظروف والفرص كي تنبثق من أعماقه وضميره.
يؤكد الاسلام – لاسيما من خلال القرآن الكريم- على مبدأ الذكر والتذكير، كما يؤكد على ان رسالة الانبياء تمثل- في حقيقة الأمر- تذكيراً بالميثاق القائم بين الانسان والخالق. وهذا ما يكشف بدوره عن اهمية المبدأ التالي وهو انّ التربية الفطرية تمثل نوعاً من الذكر والتذكير المحفز على اكتشاف الباطن الذي يتبلور على أساس الفطرة.
على هذا الضوء، تذهب ادراج الرياح جميع البرامج والتدابير الذهنية التي يدونها الكبار ومسؤولون التعليم والتربية في قالب مبادئ التربية وفرضياتهم الذهنية. ونحن نلاحظ بوضوح كم هو البون الشاسع بين ما يُطرح كأهداف تربوية معدة سلفاً وبين ما يظهر في سلوك وشخصية التلميذ. ويكشف هذا البون الشاسع بوضوح عن الحد القائم بين الذهنية والعينية في عملية التربية، وكذلك الحد الفاصل بين التربية المفروضة والتربية التلقائية.
يعتقد "فريدنبرغ" انّ عمل المدراس ينصّب منذ مرحلة الروضة وحتى المرحلة الجامعية على احداث تطابق بين المتعلمين والمجتمع المريض، وصناعة مُخ عام من أجل السيطرة به على الجيل الجديد.
يقترح "غودمن" إلغاء التربية التي يعبِّر عنها بالعمدية والقسرية، لأنها غير صحيحة. ويطالب بايقاف التعليم الرسمي لأنه يقف وراء التعارض الواسع الراهن مع طبيعة الانسان، ويعرقل التربية الفطرية.
يعتقد "أ. آس. نيل" بالتربية الطبيعية على غرار روسو، ويقول: "نحن نريد أن نشيد مدرسة نسمح فيها للصغار للتعبير عن ذواتهم وأنفسهم. ومن اجل تحقق هذا الطلب لابد لنا من تجاهل جميع الأنظمة، والتعاليم، والتلقينات، والتعليمات الاخلاقية. وهذا الهدف بحاجة الى شيء متوفر لدينا وهو الايمان الكامل بأنّ الطفل موجود خيرّ وليس كما يريد هو أيضاً بدافع الهوى. يرى "نيل" ان الطفل عاقل وواقعي بالطبع. لذلك فانه سينضج لو تُرك لحاله بعيداً عن أي تلقين من الكبار. وأنّ كل طالب سيندفع باتجاه المهنة او العمل الذي ينسجم مع طموحه وقابلياته الذاتية.
وتقوم هذه المدرسة على مبدأ الثقة بالطفل، مع دعم وتقوية حالة الادارة الذاتية والتوجيه الذاتي لديه، كي يتمكن من انضاج قابلياته واستعداداته في ظل الفرص الحرة، وجو الثقة والاحترام.




المصدر: كتاب مرتكزات التربية والديمقراطية (منقول للفائدة