ديـمقـراطيـة الـتعليـم



تعتبر ديمقراطية التعليم أحد المكاسب الهامة والهامة جدا في الجزائر، بحيث استطاعت هذه السياسة التي خلفها النظام الاشتراكي فيما خلفه منذ عهد الاستقلال إلى غاية نهاية تيار المد الاشتراكي في العالم استطاعت أن تخفض نسب الأمية بالجزائر إلى مستويات قياسية لا بأس بها، على الرغم من أن هذه الأخيرة لا تزال مرتفعة جدا بالمقارنة مع المقاييس العالمية... ولكن رغم كل الجهود التي تبذلها الدولة من أجل القضاء على الأمية، إلا أن معظم سياساتها لم تحقق ما هو مرجو منها وبقيت إلى حد كبير عاجزة عن تحقيق أهم أهدافها، فعدد الأميين بالجزائر لا يزال كبيراً جداً... بل مهولا في دولة تتوفر على إمكانات كتلك التي نتوفر عليها، ومعه كذلك عدد المتعلمين أيضا، ومع كل هؤلاء نسب تضاف كل سنة إلى العاطلين والعاطلين عن العمل...والمشكلة ليست هنا فقط... فهذه السياسة قد خلقت إشكالية أخرى على جبهة أخرى، فقد أدت إلى ارتفاع عدد الحاملين لشهادات عليا بنسبة تفوق قدرة سوق العمل الجزائري على التحمل في ظل غياب أي إجراء وقائي فعال من شأنه أن يحسن مستوى التعليم في الجزائر ويضمن نسب تشغيل معقولة، واتجهت سياسات الدولة كإجراء طبيعي إلى محاولة التخفيف من هذه الظاهرة عن طريق توسيع سوق العمل وتشجيع فتح الاستثمار فيه، ولكن مرة أخرى عدنا لمحاولة القضاء على الظاهرة لا القضاء على أسبابها، وهو ما أفرز مرة أخرى بعد أخرى اختلالاً في نسبة نجاح هذه السياسات وأدت إلى عدم التوازن بين الخطط والنتائج ومن ثم بقاء الحال على ما هو عليه، ليس هذا وفقط، فالأزمة حين تأتي تجر في طريقها مشاكل لا حصر لها، وهذه المشاكل أسوء ما فيها أبعادها المتعددة، والأصعب دائما هو ذلك البعد الزمني والذي لا يمكن التغلب عليه إلا مع مرور الزمن وأحيانا حتى مع مرور الزمن!، حيث أن ازدياد الضغط على الجامعات وتكفل الدولة بأحقية كل حاصل على شهادة البكالوريا في الحصول على مقعد بيداغوجي في الجامعة مهما كان معدل نجاحه ومهما كانت نسب النجاح قد أدى إلى التأثير سلباً على نوعية وجودة التكوين الجامعي الجزائري، فالضغط وبشدة على هذه الجامعات سواء الحديثة أو العريقة منها رغم العجز الكبير في التأطير أدى إلى عدم القدرة على توفير أحسن الظروف الملائمة لضمان نجاح العملية التكوينية بنسبة عالية ، خاصة إذا نظرا إلى كل الجبهات التي على الجامعات الجزائرية العمل عليها، والتي أدت إلى تشتت الجهود الداعمة للإصلاح، بين إصلاح منظمة التكوين الجامعي والأعداد المتزايدة من الطلبة الجامعيين، ثم الجدوى التي تقيم بها مسارات التكوين وعلاقتها بالمحيط الخارجي والشريك الاجتماعي والاقتصادي وتحديات العجز في التأطير ونقص الهياكل البيداغوجية، موازاة مع التوقعات بنسب نجاح عالية جدا في البكالوريا وهو الأمر الذي سيضع الجامعة الجزائرية في مأزق حرج للإيفاء بكل متطلباتها.... كل هذا أدى إلى انخفاض محسوس في درجة الكفاءة التي يتمتع بها الطلبة الجامعيون، وهذا ما انسحب بالضرورة على الثقة التي يقدمها خاصة القطاع الخاص في مستوى تكوين المتخرجين الجدد من الجامعات، ومن ثم التأثير على عملية الاستثمار ككل، أضف إلى ذلك اقتصار التعليم الجامعي في كثير من أجزاءه على الشق النظري، كل هذا ساهم في تعقيد الأزمة ودفع الجهات القائمة وبشدة إلى التفكير في حلول سريعة للمأزق الذي نوشك على الوقوع فيه إن لم نكن وقعنا فيه أصلاً...

كل هذا يدفعنا في كثير من الأحيان إلى التفكير... هل فعلا تبقى خيارات ديمقراطية التعليم الجامعي -على الأقل- مكسباً لا يمكن التنازل عنه؟!، خاصة إذا عرفنا أن الجزائر من الدول القليلة جدا التي يبقى التعليم فيها وبكل أطواره مجانيا مئة في المئة ومعه كل النفقات الثقيلة التي تتحملها الحكومة وتجود بها براميل النفط... إلى حين!!!...، وعلى الرغم أن ديمقراطية التعليم من المكاسب القليلة جدا التي خلفها لنا النهج الاشتراكي أيام السبعينات والثمانينيات ... إلا أن الوقت ربما قد حان في التفكير في خوصصة الجامعات والاتجاه نحو الجامعة المدفوعة الثمن، ولكن هل هذا الحل فعلا قد يجدي؟ هنا نجد على المحك قضيتين مهمتين جدا، أولا أن تكاليف هذه الجامعات ستكون باهظة جدا، وهذا يعني عجز معظم طلبة الجزائر الذين يشكلون في معظمهم أبناء الطبقة الوسطى عن دفع التكاليف بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وهو ما سيترتب عليه خلق فجوة أخرى في التعليم الجامعي بحيث تصبح جودة التكوين حكرا على هؤلاء الذين يتمتعون بفرصة دفع التكاليف. وهذه الجودة في التكوين المدفوعة الثمن طبعا ستغري المؤسسات بتوظيف هؤلاء والإحجام عن التعامل مع طلبة القطاع العام خاصة إذا تعممت التجربة، وهو ما سينتج مشكلا أعقد من المشكل الأول، والمشكل الثاني الذي ستطرحه القضية أن الطالب في حالة ما إذا تكبد عناء دفع التكاليف فإنه سيتوقع في المقابل أن التوظيف سيكون مباشرا بعد التخرج.. فماذا سيحصل لو حدث العكس، وتمكنا من تحصيل متكونين على درجة عالية من التأهيل ولكن عاطلين عن العمل؟؟

إذا الأزمة هنا قد أصبحت أعقد من أن نستطيع تحليلها بهذه البساطة، بسبب تعقد الزوايا التي يتعين النظر من خلالها، والمشكل الأكبر الذي يواجهنا أن الجزائر لا تزال غير مستعدة على أكثر من صعيد على الدخول في تجربة خوصصة الجامعات بسبب البيئة الجزائرية ككل، فالمؤسسات التعليمية الخاصة موجودة في الجزائر وبالإمكان مقارنة تجربتها بتجربة أخرى لجامعات خاصة، والملاحظة أنها بقت محصورة جدا ومتروكة فقط لمن يستطيع دفع التكاليف، هذه هي المعادلة، ربما تستطيع حل معادلة من مجهول أو مجهولين أو ثلاثة، ولكن ماذا عن معادلة بعدد غير معلوم من المجاهيل ودون معلوم واحد!

أنا هنا لست بصدد المطالبة بإلغاء مجانية التعليم حتى لا أتسبب في خراب الجزائر، كما أني لست بصدد الدعوة إلى تعميم تجربة الجامعات الخاصة حتى لا أقضي على ما بقي من أبناء الطبقة الوسطى المنهكين أصلا في الجزائر، ولكني فقط أحاول أن أحلل وضعاً معقداً وعلى وشك أن يتعقد أكثر!! فأنا لم أستغرق أكثر من دقائق للوصول إلى مهندس في الإعلام الآلي لأجل خدمة مستعجلة، ولكني استغرقت أسبوعين حتى وجدت شخصا يستطيع إصلاح خلل في توصيلات المياه في منزلي!!!

الجزائر اليوم أمام خيارين، إما تدعيم الجامعة ووضعها في قائمة الأولويات من حيث الإيفاء بكل متطلباتها وتدعيمها بكل ما يلزمها للنهوض بقطاع التعليم العالي، أو ترك الحال على ما هو عليه حتى يصبح الحاملون لشهادات التعليم العالي أكثر من بائعي الخضر والفواكه... هذا إن لم يصبحوا هم في حد ذاتهم من بائعي الخضر والفواكه!...


lتم تحميل هذا المقال من موقع موجه لخدمة طلبة جامعة تبسة