لغة التعليم بين الرؤية والرؤيا واقع مؤلم ومستقبل غامض



د. عبدالله خلف العسّاف

الملخص

التعليم مرتبط باللغة ، ولغة التعليم مرتبطة بأركان العملية التعليمية الثلاثة ( المدرس والكتاب والمدرسة ) . المشكلة في (لغة التعليم) عندنا أنها ليست مرتبطة بركن واحد فقط ، فتكون معالجته سهلة ، وإنما بها جميعاً . فالركن الأول (المدرس) الذي يُفترض أن يقدّم المواد على اختلاف أشكالها بالعربية الفصحى نجده يعاني من أمرين خطرين جداً ، أولهما أنه يفتقر إلى المهارة في تدريس المادة التي يدرسها ، وهو لذلك يعتمد علـى التلقين فحسب ، فيتخرج طالبنا من التعليم في المرحلة الأساسية إلى الجامعية ، وهو يعاني من عدم القدرة على التكيف مع الاختصاص الجديد واستيعابه والتفاعل معه ، ولو تخرج ونال البكالوريوس فسيتوقف غالباً عند هذا الحد ، بل هو لن يتفاعل مع الحياة الاجتماعية الجديدة ، والأمر الخطِر الآخر أن المدرس غالباً ما يفتقر إلـى معرفة العربية الفصحى ، فلو أتقن قواعدها باعتبار أنه درَسَها عبر التلقين وهذا أمر نادر للغاية ، فإنه لن يكون متمكناً من مهارة استخدامها وتوظيفها كوسيلة لتقديم المادة التي يدرّسها للطلبة . ولهذا نجد أنه غالباً ما يلجأ إلى شرح النصوص المثبتة في الكتاب المدرسي بالعامية ؛ أعني شرح الفصحى بالعامية . أما الركن الثاني (الكتاب) في العملية التعليمية فيعاني هو الآخر من مشكلة أساسية على الرغم من أنه مكتوب بالفصحى ، حيث لايراعي المستويات العمرية للطلبة ، فنحن نجد ضمن الكتاب المدرسي نصوصاً لايمكن أن تكون إلا لسنوات أعلى بكثير ، إلى جانب افتقار هذه الكتب إلى المفردات التي يحتاجها الطلبة بحسب أعمارهم ضمن نظام يتطور مع تطور عمر الطالب من المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية ، إلى جانب غياب المهارة في عرض مفردات المواد وغلبة الجانب النظري عليها ، وفوق كل هذا وذاك عدم توفر المدرس المناسب الذي يقوم ببسط محتويات المقرر أمام الطلبة بمهارة ، أما الركن الثالث ( المدرسة ) فلا يتوفّر فيها المناخ المناسب لاستخدام اللغة العربية ، أو اللغة الوظيفية ، فكل شيء في الوسط المدرسي يستخدم العامية في اللغة والتفكير .

ونحن نعتقد أن (لغة التعليم) ليست بمعزل عن واقع (العربية الفصحى) ومهارات التدريس بها أو تدوالها .

وسوف نتناول ضمن إطار هذا الوعي بالمشكلة (اللغة العربية الفصحى) ومن ضمنها (لغة التعليم) من خلال استعراض لواقعها الراهن ، ومشكلاتها الأساسية وأسباب هذه المشاكل والأصول الثقافية الفلسفية والجمالية لها ، وسنحاول أن نبسط بعض الحلول المقترحة لتجاوز المشكلات الراهنة من خلال المحاور الأربعة الأساسية التالية :

- (الرؤية ) : الواقع الراهن للغة العربية ، ومشكلاتها الأساسية

- الجوانب المباشرة للمشكلات

- الأصول الثقافية (الفلسفية والجمالية) للمشكلات

- (الرؤيا) : الحلول العملية المقترحة لتجاوز المشكلات الراهنة للغة العربية



المحور الأول ( الرؤية )

الواقع الراهن للغة العربية ومشكلاتها الأساسية



أولا : تتمثل المشكلة الأولى للغة العربية - في واقعها الراهن - في مجموعة من الثنائيات الشائكة . وفيما يلي نرسم صورة لهذا الواقع اللغوي القائم الآن في الوطن العربي :

1) هنـاك اليوم عدة أشكال للغة العربية الفصحى : الشكل التقليدي ، والشكل الحداثي ، والشكل الذي يتأرجح " بين بين ". ولكل شـكل من هذه الأشكال مصطلحاته ، ومرتكزاته الفلسفية ، والجمالية ، وأنماط تفكيره التي تتميز تميّزاً بيِّناً من الآخر .

2) هناك عدةُ لهجات متداولة في الوطن العربي ، بل في البلد العربي الواحد ، والإنسان العربي ينشأ على اللهجة العامية ، ثم يتعلم الفصحى على مقاعد الدراسة . ونعني بذلك أن الفصحى تصبح اللغة الثانية له بعد العامية التي تُعتبر - من حيث الممارسة العملية - هي اللغة الأولى . ومن ذلك مثلاً أن كثيراً من المدرسين في مراحل التعليم الأولى يضطرون إلى اللجوء إلى العامية لشرح النص المكتوب بالفصحى (الكتاب المدرسي) . إلى جانب أن ذلك - أعني أولوية العامية على الفصحى - جعل الطالب يعتمد على التلقين والحفظ وليس التفاعل مع المعلومة ، لأن كثيراً مـن مفردات الفصحى بعيدةٌ عن إداركه . وفـي الاختبار يصبُّ الطالبُ ما حفظه على مقاعد الدرس لا مافهمه ، وبعد الاختبار ينسى ما أخذه . ولعل هذا يشكل أحد الأسباب الرئيسية لتراجع المستوى العلمي لطلابنا عن الآخرين من الأمم الأخرى .

3) ومـن سمات الوضع اللغـوي القائم أيضاً أن هناك أناساً غير عرب ينطقون العربية ، ويعيشون ثنائيةَ لغتهم الأساسية واللغة العربية الفصحى التي تعلموها . وممّا يسيء أكثر للغة العربية - في هذا الجانب - أن العرب الناطقين بالعربية يشجعون هؤلاء غير الناطقين بالعربية ، ويدعمونهم (ونخص منهم الأسيويين) حين يقومون باستخدام لهجتهم بهدف الحوار معهم، أو طلب شيء منهم . ولا ننسَ أن ما يميّز لهجةَ هؤلاء ليس المفردات الغريبة التي لا نعرف لها اصلاً في العربية ، وإنما هم يحطّمون أصل التركيب اللغوي الصحيح في العربية ( أعني نظام الجملة ) . وهذا أمر خطيرٌ للغاية ( فهم يجرّون الفعل ، ويغيّرون في أصل بناء الجملة ، مثلاً : أنا في يروح ) . ولعل تأثير ذلك يبدو بائناً في علاقة الطفل العربي بمربيته الآسيوية .

4) هناك تأثير مباشر للغات الأجنبية في الدارسين العرب . فهم يفكرون علميا باللغة الأجنبية التي أكملوا دراسـاتهم بها ، ويعيشون في ممارستهم اليومية لغتهم الأم ، إلى جانب اللهجة العامية التي رُبوا عليها ، ولذلك نجد الأستاذ الجامعي ، وكذلك الطالب الجامعي لو تكلم بالعربية فإنه سوف يطعّمها بمفردات أجنبية دون أدنـى ضرورة لذلك .

ثانيا: وتتمثل المشكلة الثانية في المصطلح اللغوي الذي يؤثر سلباً على لغة التعليم وبخاصة في المرحلة الجامعية والعليا حيث لا وجود لقواعد واحـدة ناظمة لوضـع المصطلح في اللغـة العربية . وإذا وُجدت بعض هذه القواعد التي سعت مجامع اللغة العربية لإرسائها فإن كثيراً من العاملين في حقل المصطلح لا يلتزم بها ، بمعنى أن هناك حالة عفوية تسود وضع المصطلح العربي المعاصر . وهناك حالات فردية ذات طابع ارتجالي . وكل هذا يعني أن اللغة العربية تعاني بصفة عامة من فوضى النقل إليها ، واتسـاع مجالات الترجمة وتباينها ، فترجمة الكلمات تتغير من بلد عربي إلى آخر ، ومن شخص في البلد نفسه إلى شخص آخر . ومشكلة المصطلح - في جانب منها - جزءٌ من سياسة الترجمة إلى العربية التي غاب عنها التنسيق … إن المشكلة الحقيقية في قضيتي التعريب والمصطلح هي مشكلة تنسيق وتنظيم ، ذلك أن اللغة العربية تُستعمل استعمالات مختلفة ، وتُوظّف في كل دولة توظيفا يخضع لسياستها وقوانينها ، فمثـلا استعمال اللهجات المحلية في أجهزة الإعلام ، وفي الإنتاج الفني والأدب وفي لغة التدريس … يختلف من بلد إلى آخر … ومن هنا فلم تعد هناك رقابة لغوية علـى دقـة الترجمة ، فأصبحت الكلمـة الأجنبيـة تترجـم بكلمـات متعددة إلى العربية . وكلُّ هـذا يؤدي إلى عـدم وجود إجماع حـول اسـتخدام المصطلح الواحد ، ومن ثم يؤدي إلى تشكيل حاجز بين الكتاب وبين من يقرؤه ، بين اللغة الفصحى وبين أهلها.

ومن مشكلات المصطلح التي يجب عدم التقليل من أهميتها في إضعاف العلاقة بين العربي ولغته الأم أن هناك مصطلحات متعددة تُطلق على الظاهرة الواحدة . وعلى الرغم مما لهـذه المشكلة من مأثرة إيجابية ، وهـي إغناء اللغة بالمترادفات المصطلحية ، لكنه يحدث - على الأغلب - أن تدبَّ الفوضى في مثل هذا النوع من التعدد ، لأنه - في الأساس - ليس صادرا عن اتفاق سابق بين الباحثين ، وإنما عن عدم تنسيق .

ومن أمثلة ذلك المصطلحاتُ التالية التي تدل جميعها على مسمى واحد ( حاسب ، وحاسب آلي ، وحاسوب ) ، وكذلك (شعر التفعيلة ، والشعر الحر ، والشعر المعاصر ، والشعر الحديث ، وشعر الحداثة ) ، وكلها تُطلَق على ظاهرة شعرية واحدة بدأها السياب ونازك الملائكة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي . ومن ذلك كلمات ( جوّال ، ونقّال ، ومحمول ، وخلوي ، وخليوي) ، وكلها تدلّ على مسمّى واحد .

ويدخل - ضمن حقل مشكلة المصطلح أيضاً - أن هناك دارسين غير متخصصين يساهمون بوضع المصطلحات ويمارسون استخدامها . وتبرز المشكلة هنا في عـدم قدرة هؤلاء على وضع المصطلح الصحيح في صيغته المثلى ، وسياقه المناسب ، لأنهم غير خبيرين بهذا ، إلى جانب أن عـدم تقديرهم لأهمية المصطلح يدفعهم إلى الاستغراق في إنتاج مصطلحات كثيرة قد لا تكون هناك ضرورة لإنتاجها مما يؤدي إلى الفوضى والتعدد ، والأكثر من ذلك أن استخدامهم للمصطلح سيكون - غالباً - استخداماً غير دقيق . وينبع عن ذلك مشكلةٌ أخرى تتمثل في أن هؤلاء غالبا ما يُثقلون بحوثهم بعدد هائل من المصطلحات لسبب ما ، وهذا يؤدي - بدوره - إلى انغلاق البحث على نفسه ، وإلى صعوبة استيعابه مـن المتلقّي الآخر حتى لو كان متخصّصاً ، ومن ثم إلى قلة فائدته العلمية .

ثالثا : المشكلة الثالثة التي تؤثر سلباً على لغة التعليم هي مشكلة (الترجمة الذاتية التي لاترتكز على ضوابط علمية) من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية . فهناك ترجمات متعـددة للكلمة الواحدة ، وللكتاب الأجنبي ، أي لا يوجد تنسيق محدد فيما يخص هذه المشكلة . ومن ذلك مثلا : ما يُروى حول الترجمات المختلفة لكتاب الرياضيات الواحد الذي قررته اليونسكو لبعض الجامعات العربية . فهذا الكتاب أصبح ستة كتب بعد ترجمته إلى اللغة العربية . ولهذا انعكاس سلبي على مستقبل اللغة العربية ، وعلى علاقة الإنسان العربي بلغته الفصحى ، وجفوته عنها .

ولا ننس - ضمن هذا الإطار - التعريب . فعلى الرغم من الإنجازات الكبيرة التي حقّقتها بعض المؤسسات الأكاديمية في مجال التعريب فإنه ما يزال يعاني من مشكلات أساسية على رأسها عدم تنسيق الجهود لتوحيدها ؛ لأنه دون ذلك سنواجه -كما نحن الآن - أشكالاً متعددة للمعرّب ، وسيزيد التعريب من تعقيد المشكلة .

رابعاً: ومن المشكلات التي أصبحت تؤثّر سلباً في اللغة العربية إلى جانب أنها تساهم في إضعاف اهتمام الطالب والمعلم والقارئ العربي بعامة بلغته الأم والتقليل من ثقته بها ، وتجعله غير مكترث بها تنقّلُ كثير من الكتاب والباحثين بين أكثر من اختصاص مما يؤدي إلى ضعفٍٍٍ في المردود المعرفي والعلمي لما يكتبون ، ومن ثم يزعزع ذلك الثقةَ بين القارئ ولغته باعتبار أن اللغة هي الحامل الأساسي للفكر .

خامساً: ومن المشكلات التي أصبحت تقف حائلاً بين (الجهاز التعليمي والتربوي والطلبة) من جهـة وبين (اللغة العربية) من جهة أخرى انشغال هؤلاء بوسائل الإعلام المرئية ، واعتمادهم عليها فـي تحصيل ثقافتهم اليومية ، فهم يقضون ساعات يومية طويلة في التنقّل بين المحطات الفضائية المختلفة مما لا يجعل لديهم الوقت الكافي لكي يقرؤوا بلغتهم الأم ، بل قد لايجدون وقتاً يُصغون إلى حاجات أولادهم أو أو تطوير مهاراتهم في اللغة والتدريس . ونشير هنا إلى أن اللغـة المشتركة بين وسائل الإعلام العربية هـي ( اللهجات العامية ) ، والإصغاء الدائم إليها من خلال وسائل الإعلام يُضعف الإحساس باللغة العربية الفصحى ، ومن ثم يُقلّل من اهتمام هؤلاء بها .

سادساً: التناقض شـبه المستمر بين نمطين ليس لهما علاقةٌ مباشرة بثنائية الفصحى والعامية و يؤثران سلباً فيها ، هما :

1- الموقف الرسمي الذي يطالبُ بأن تكون الفصحى هي لغة الحوار في كافة أشـكال استخدام اللغة ( الممارسة الاجتماعية ، ووسائل الإعلام ، والممارسة الرسمية ، والنقد الأدبي ، والأجناس الأدبية ) .

2- الموقفُ غير الرسمي ، أو الموقف الراهن الموجود على حيّز الواقع الذي يؤكّد أن للعامية حضوراً مميّزاً في كل مكان ، ومن ثَمّ يجب استخدامها في كافة أشكال التواصل المذكورة .

أمام هذا المشهد القائم من تعدد اللهجات العامية ، وتمكّنها ، وثنائيةِ العامية والفصحى ، وثنائية الخطابين التقليدي والحداثي ، وثنائية الوعي الجمالي التقليدي والوعي الجمالي الغربي ، وثنائية الجدّ واللعب ، أي المنفعـة ، والفن للفن . أقول : أمام كل هذه الثنائيات يبدو الواقع اللغوي الراهن الآن للعربية الفصحى صعباً ، وشائكاً ، ويكـاد يُعطـي للعاميـة إمكانات السبق في معظم الحقول .

سابعاً - : ومن المشكلات التي تزيد من الأزمة وتفاقمها أننا مجتمع لا يقرأ .



المحور الثاني

الجوانب المباشرة للمشكلات

على الرغم مـن الوضع الصحي ، والمميز للغة العربية كنظام صوتي معياري متكامل إذا ما قورنت بغيرها من اللغات الحية، فإنها تعاني - فـي الوقت الراهن كما أشرنا سابقاً- من مشكلات أساسية. ويمكن ربط هذه المشكلات بما يلي :

� مشكلات تتعلّق بالجانب الاجتماعي ( الممارسة الاجتماعية للغة ) .

� مشكلات تتعلّق بالجانب التعليمي الرسمي (الكتاب ، والمعلم ، والطالب) .

� مشكلات تتعلّق بالجانب الإعلامي ( المرئي والمسموع والمقروء ) .

� مشكلات تتعلّق بالباحث العربي الذي يمارس الجانب العلمي من اللغة .

� مشكلات تتعلّق بالقارئ العادي .



المحور الثالث

الأصول الثقافية (الفلسفية والجمالية) للمشكلات



مما يجعل المشكلات التي تعاني منها اللغة العربية - كلغة للتعليم وأداة أساسية للتدوال - ذات خطورة أنها ليست هامشية أو عابرة بل إن لها عمقاً وخلفية كُرّسا في مواقفُ فلسفية وجماليـة متباينـة ، يعكسها جميعاً وعي جمالـي متباين . وقد أصبح من الصعب التخلّص منها دون وضع ثقافة موازية . ويمكن أن أوجز أبرز هذه المواقف على النحو التالي :



الجانب الجمالي :

يتم التعامل مع اللغة العربية اليوم من خلال أربعة مواقف هي :

أولاً الموقف الجمالي التقليدي الذي يُعلي دائماً من شأن الآخر ، والموضوع على حساب الذات ، أعني أنه يرى الذات من خلال الموضوع . وهذا الموقف يطالب بوجوب سيادة اللغة العربية الفصحى التقليدية دون الالتفات إلى طبيعة الموقف الذي يمكن أن تقف فيه اللغـة العربية ( الاستخدام العملي للغة ، والأدب ، والمدرسة ، والكتاب المدرسي ، والإعلام ) وما يتبع ذلك من تكوين ثقافي أو جمالي .

ثانياً الموقف الجمالي ( التغريبي ) الذي يتخذ من النموذج الأوربي " مَثَلَهُ الجمالي " . وأصـحاب هـذا الموقف يطالبون بنسـف الفصحى ، وسـيادة العاميـة في (الاستخدام العملي للغة ، والأدب ، والمدرسـة ، والكتاب المدرسي ، والإعلام) ، والاتجاه الكلي نحـو الغرب من خلال الاعتماد على نماذجه الأدبية وأساليبه الجمالية .

ومما يؤكّد قوّةَ هـذا التيار واستمرارَه ما يحدثُ اليوم على شاشات التلفزة العربية . فالملاحظ أن العاميةَ حين تُقدّم على شاشـة معظم التلفزة العربية يُوفّر لها مناخٌ جذّاب ، فيه غنى وتنوّعٌ ؛ من مقدِّمات برامج ذوات مواصفات معيّنة إلى دعمِ البرنامج بالجوائز القيّمة التي تربط المشاهد حتى نهاية البرنامج ، إلى كل ما يفتنُ المشـاهدَ من قوّة الصورة البصرية ، بينما تُقدَّمُ الفصحى في جوّ كئيب ، يؤكّدُه ديكورٌ بائس ، لا يخلو مـن بعث الشـعور بالملل لكل من يتابعه . وربما استُخدمت " كاميرا واحدة فقط . واذكر أن إحدى مقدّمات البرامج حصلت على جائزة أفضل مقدّمة برامج عام 1998م . ومن الأسباب الأساسية التي وردت في حيثيات الجائزة أنها - أي المذيعة - استطاعت ببراعة أن تنشر لهجةَ بلدها على مساحة واسعة بين المشاهدين .

ثالثاً- الموقف الجمالي ( العائم ) الذي يرغب أصحابُه في الجمع بين النموذج العربي القديم ، والنموذج الغربي جمعاً تعسّفباً بطريقة لا تخلو من التلفيق والهجانة ، فلاهي بالعربية ، ولا هي بالغربية . وهناك من يُسمّي هذا الموقف بالموقف التلفيقي (كإدخال مفردات أجنبية في سياق الجملة العربية . وهي اللغة الدارجة اليوم لدى طلاب الجامعات العربية ) .

رابعاً- الموقف الجمالي الموضوعي ، وهو ينطلق من معطيات اللغة العربية المعاصرة ، ومدى حاجة المجتمع إليها . فهو يطالب بأن تكون الفصحى لغـةً للمجتمع ، والإعلام ، والأجناس الأدبية ، والنقد الأدبي ، والبحث العلمي وما إليها . ويهدف الداعون إلى هذا الموقف - من وراء ذلك - إلى المحافظة على لغة مشتركة . أما طبيعةَ الفصحى التي يطالبُ بها أصحابُ هذا الاتجاه فهي الفصحى التي تنسجم وطبيعة الواقع المعاصر من حيث اختيار المفردات السهلة ، ووضعها في تراكيب سهلة بحيث تؤدّي الغرض المرجوّ منها . ولكن - مقابل ذلك - لا يرفض هؤلاء أن تُستخدمَ العاميةُ فـي مواقع معيّنة ؛ بمعنى أنهم لا يمانعون مـن إدخال مفردات عامية إذا دعت الضرورة إلى ذلك في وسائل الإعلام ، وفي سياق الأجناس الأدبية ، وبخاصّة لغة الحوار في المسرح أو القصة القصيرة أو الرواية ؛ لأن ذلك يؤدّي إلى حالة من التواؤم الفعّال بين طبيعة الحوار والشخصيات التي تمارسه .

الجانب الفلسفي :

إن المواقـف الجماليـة المذكورة لهـا علاقـةٌ وطيـدة باتجاهين فلسفيين أثـّرا تأثيراً كبيراً في الموقـف الذي آلت إليه اللغة العربية الفصحى . والاتجاهان هما :

1-: الاتجاه الذي يربط جمال اللغة والفن - ومن ضمنه الأدب - بالمنفعة . ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن جمال الفن والأدب يزداد كلما ازدادت المنفعـة التي يقدّمها ، ويقلُّ جمالُه بقلّة ما يقدّمه من منفعة ، ويصبح قبيحاً إذا ما خلا منها .

2-: الاتجاه التي يربط جمال اللغة والفن باللعب ، وهو يَعتبر أن ارتباط أي جنس أدبي مثلاً بمنفعة حتى لو كانت صغيرة ستفسدُ جمالَه ، وتجعله قبيحاً . والنقّاد الذي ينطلقون من هذا الموقف لا يهمهم كيف تكون لغةُ الأدب ؟ المهم عندهم أن يحقق هـذا العملُ الإبداعي : اللعبَ أو مقولةَ الأدب من أجل الفن ؛ بمعنى إذا كانت العامية تحقّق هذا الأمرَ ، فيجب أن التمسّك بها حتى يظلّ الأدبُ جميلاً ، وكذلك إذا كانت العامية تحقّق هذا الأمر في وسائل الإعلام أو من خلال الممارسة الاجتماعية لها ، أو في المدرسة فيجب استخدامها على ما فيها من نتائج كارثية على مستقبل اللغة العربية الفصحى . .

وقد انعكس هذا الموقف على وسائل الإعلام التي بدأت تطالب - عبر الممارسة العملية- بالعامية ، وانعكس أيضاً علـى الاستخدام الاجتماعي للغة ، وعلى طرائق التعامل الرسمي حيث نجـد أن هناك تململاً لدى كثيرين ( في الدوائر الحكومية مثلاً ) مـن استخدام الفصحى كلغة للتخاطب الرسمي ( الرسائل الإدارية مثلاً ) ، إلى جانب عدم اكتراث هؤلاء بما يمكن أن يقع من أخطاء في المداولات الرسمية بحجة أن لا مشكلة في ذلك .



المحور الرابع ( الرؤيا )

اقتراحات بشأن تجاوز المشكلات السابقة

مما تجدر الإشارة إليه أن المشكلات التي ذكرناها تتعلق جميعها بالأفراد الباحثين ، أو بالمؤسسات العلمية والأكاديمية ، أو بالممارسة الاجتماعية للغة ، أو بوسائل الإعلام ، إن كان ذلك علـى صعيد الثنائيات ، أو الفوضى في استخدام المصطلح ، أو الاختلاف في الترجمة ، وليس للغة العربية نفسِها علاقةٌ بتلك المشكلات ، لأن لغتنا العربية تمتلك مرونة فائقة في مختلف حالات التثاقف مع اللغات الأخرى منـذ زمن بعيد حتى الآن .

ومن أبرز ما يمكن اقتراحه في هذا المجال من حلول بديلة ما يلي :

أولاً : ينبغي - لحل بعض جوانب مشكلة الثنائيات المذكورة آنفاً - التأكيد على ضرروة تعليم اللغة العربية واللغات الأخرى للإنسان العربي منذ طفولته المبكرة ، ويكون هذا التعليم دفعة واحدة ، بحيث تصبح العربية هي لغته الأولى . فقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان يولد ومعه - في دماغه – نظـامٌ خاص لاكتساب اللغة ، وهذا النظام لا يدوم إلا لسنوات قليلة لا تتجاوز السنة السابعة . ويستطيع الطفل كما يؤكّد هؤلاء الباحثون أن يُتقن أكثر من لغة في فترة قصيرة جدّاً بسبب هذا النظام المذكور . ومن هنا ليسصحيحاً أن تعلّم لغة يؤثّر سلباً في تعلّم لغة أخرى . إن استغلال فترة الطفولة المبكّرة تجعل اللغات التي يتعلمها الطفل أساسية لديه ، وتكّون لديه ثروة لغوية مميّزة وضخمة تنمو معه ، وتجعله قادراً على التعبير ، والتكيّف ، والتفكير ، وفهم ما يراه بطريقة مميّزة . إن تعليم اللغات بهذه الطريقة يُجهِز على مشكلة الثنائية ، ويحوّل تعلم اللغات الأجنبية من ثنائية سلبية إلى مشروع متكامل يشكل قاعدة قوية ينطلق منها الطفل الذي سيكون باحثاً نحو أفق أرحب . إن تعليم العربية الفصحى للأطفال منـذ الصغر يكسر حاجز الخوف من اللغة العربية الفصحى .إلى جانب أن ذلك يحدُّ من التأثير السلبي للهجة الخادمات والآسيويين . ونُضيف إلى ذلك تراجع اللهجة العامية أمام قوّة الفصحى التي تُصبح هي اللغة الأولى لديه .

ثانياً - : إجراء دورات تدريبية سنوية مكثفة للمدرسين خلال إجازة الصيفمدتها (15) يوماً يشرف عليها متخصصون في مهارات الاتصال يخضع فيها جميع المدرسين للتدرّب على أمرين ، أولهما : إطلاعهم على كل ما هو جديد في الأساليب التربوية الحديثة في طرائق التدريس ، وثانيهما تدريبهم على مهارات الاتصال بعامة ومهارات الاتصال الخاصة بموادهم بخاصة . أعني تلك المهارات التي تمكّنهم من استخدام (لغة التعليم) وتوظيفها في تقديم أفضل السبل لاستيعاب المواد التي يدرّسونها . ولا بد هنا من تدريبهم على التكلم بالفصحى لكي ينفذوها في قاعة الدرس . ومعروف علمياً أن الطالب يقلد أستاذه في لغته ويتأثر بها . وبخاصة أن هذا الطالب في مرحلة أولى لتكوين لغته .

ثالثاً - : في الكتاب المدرسي ، لابد من مراعاة الآتي :

- زيادة حجم الحيّز التطبيقي العملي في الكتاب المدرسي .

- الإكثار من الأسئلة التي تحفز على التفكير وتبتعد عن التلقين .

- من حيث (لغة التعليم) لابد من مراعاة مفردات المستويات العمرية للطلبة ، فكتبنا المدرسية تفتقر إلى المفردات التي يحتاجها الطلبة بحسب أعمارهم ضمن نظام يتطور مع تطور عمر الطالب مـن المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية .

رابعاً - : في المدرسة لا بد من توفير المناخ المناسب لاستخدام اللغة العربية ، أو اللغة الوظيفية ، لأن كـل شيء في الوسط المدرسي يستخدم العامية في اللغة والتفكير ، وذلك لكسر الفجوة بين لغة التعليم والكتاب من جهة وبين العامية من جهة أخرى .

خامساً : إنشاء إعلام عربي موازٍ للإعلام الاستهلاكي يستخدم اللغة العربية الفصحى ضمن أبسط استخداماتها مع الحفاظ أسسها وقواعدها ، وليس اللغة المقعرة . فهذا سوف يساهم في دعم مناخ استخدام الفصحى .

سادساً: الإحساس الحقيقي لدى المعنيين بشؤون التعليم بوجود مشكلات جوهرية تجعل اهتمام الطالب باللغة العربية الفصحى دون اهتمامه باللغات الأخرى أو بالعاميات ؛ مما يؤدي إلى البحث الفعلي عن حلول لتجاوزها .

سابعاً - : الدعوة الجادة إلى ( القراءة ) وتوفير مناخ عملي ، وعلمي لذلك ضمن البيت والحي والمدرسة بحيث ينمو الطالب لدينا ضمن مناخ يحرضه على القراءة

وما نعنيه من القراءة هنا أمرين : أولهما تشجيع القراءة بوصفها حالة صحية لابد من تعاطيها بشكل يومي لتطوير الطالب لنفسه علمياً وثقافياً ، وثانيهما : تشجيع القراءة باللغة العربية الفصحى ، فهذا التعاطي المستمر مـع القراءة بالفصحى يوفّر نوعاً من الدفء بين القارئ ولغته ، ويطور لديه الإحساس الحقيقي باحترامها ، ومن ثم ضرورة المحافظة عليها . ومن أشكال تطوير جاني الصلة بالكتاب وتشجيع طلابنا على القراءة استغلال حصة المكتبة المقررة في الجدول استغلالاً جيداً إذ جرت العادة أن تُعطى ساعة المكتبة للأساتذة المقصرين في إعطاء موادهم فتعطى لمدرسي الرياضيات والفيزياء وغيرهم ، ومن أشكال التشجيع أيضاً : نشر المكتبات ، تخفيض ثمن الكتاب العربي ، طباعة الكتب المراد الترويج لها التراثية والمعاصرة طباعة شعبية ، دراسة فكرة الكتاب الشعبي ، توزيع نسخ مجانية من بعض الكتب مع بعض الصحف اليومية ، إقامة برامج تلفزيونية وإذاعية منظمة ومستمرة عن أهمية القراءة بالفصحى في تطوير الثقافة الإنسانية ، إقامة حملة وطنية شاملة على مستوى الدول العربية تُعلن عنها جامعة الدول العربية مدّتها أسبوع أو أكثر تشارك فيها كافة الوزارات ووسائل الإعلام للحديث عن أهمية الكتاب ، يرافق ذلك توزيع الملصقات الخاصّة بذلك في معظم الأماكن التي يتردّد إليها المواطن كأماكن التسوّق والملاعب الرياضية والمدارس ، وغيرها ، توزيع بعض الكتب مجاناً لبعض الطلاب الذين يقرؤون أكثر من غيرهم كعنصر محفّز ، استخدام المساجد في الخطب والدروس الدينية للترويج لأهمية القراءة باعتبارها واجباً دينياً ووطنياً ، تنشيط نظام الإعارة في كافة المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، ورصد جوائز للطلبة الذين يستعيرون كتباً أكثر ، وتوجيه خطابات شكر لهم ، التركيز - في البرامج الدراسية - على التلخيص ، وتشجيع المدرّس طلابه على ذلك شهرياً . ويقوم المدرّس بتلخيص كتاب أمام الطلاب لتعليمهم ذلك ، استغلال فكرة الدعوة إلى القراءة في الاجتماعات الدورية التي تعقدها كافة المدارس للآباء والأمهات .


http://www.altaalim.org/details2.php?id=22