لقد ذاع استخدام مصطلح "العولمة" وانتشر على نطاق واسع منذ بداية تسعينيات القرن العشرين لعلاقته الوثيقة بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة التي يشهدها عالم اليوم. وعلى الرغم من الجدل الكثير الذي أثير حول العولمة، فإن المفكرين لم يتفقوا على معنى علمي ومنهجي جامع للمصطلح ومفهومه.

التفاصيل



امتداد تأثير العولمة على التعليم في الوطن العربي

د. لبنى بنت حسين العجمي

عميدة كلية التربية للبنات - الأقسام العلمية والاقتصاد المنزلي في أبها



لقد ذاع استخدام مصطلح "العولمة" وانتشر على نطاق واسع منذ بداية تسعينيات القرن العشرين لعلاقته الوثيقة بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة التي يشهدها عالم اليوم. وعلى الرغم من الجدل الكثير الذي أثير حول العولمة، فإن المفكرين لم يتفقوا على معنى علمي ومنهجي جامع للمصطلح ومفهومه.

فالعولمة عملية مستمرة تقوم على الاعتماد المتبادل والمتزايد في أرجاء العالم الذي نلحظه جيداً في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية،وفي ثورة الاتصالات والمعلومات، وفي التقدم التقني، حيث تتضاءل أهمية وتأثير البعد الجغرافي في إتاحة واستمرار العلاقات في تلك المجالات.

ولقد فرضت العولمة نفسها على الساحة الدولية، ثم انتقلت إلى الساحة العربية بآثارها العميقة على الدول النامية في المجالات المختلفة، فقد فرضت علينا تحديات يتحتّم علينا أن نواجهها بسرعة وفعالية لكي نلحق بركب الدول المتقدمة.

ومن هنا نرى أن العولمة حقيقة واقعية، وأنها قد ولدت لتبقى، ولا يمكن لأي دولة أن تعيش بمعزل عنها، كما أنه ليس من الحكمة مواجهتها بمنطق الرفض الصريح، بل إن الحكمة تقتضي أن نعظم أكبر قدر من إيجابياتها،وأن نتجنب أكبر قدر من سلبياتها، فالتحدي الذي تواجهه البشرية هو كيفية إدارة العولمة وتحويلها إلى قوة إيجابية يستفيد منها كلّ سكان الأرض(1)، فتسعى الدول المتقدمة من خلال العولمة إلى تحقيق الغزو الثقافي والفكري وفرض ثقافات الدول الكبرى على ثقافات الدول النامية، ومنها الدول العربية بقصد إلغاء خصوصيتها الثقافية وجعلها في إطار مفهوم التبعية.. مما جعل الأمة الإسلامية تواجه اليوم الكثير من التحديات والعقبات التي تحاول أن تدفع بها بعيداً عن أداء دورها في العطاء القيمي والثقافي، وتحول دون تحقيق رسالتها الخالدة ومشروعها الحضاري ذي الأبعاد الإنسانية والإسلامية والعربية، وتزداد هذه التحديات في ظل الهيمنة الأميركية والقطب الواحد الذي يحاول النيل من الإسلام حضارةً ودولةً وتربيةً وتعليماً.

من هنا يتأتى دور المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها حيث تعد أداة الإسلام المنظمة لتحقيق رسالته وأهدافه وتحويلها إلى نماذج حية، وهي التي تحافظ على هوية الأمة بما تصنعه وما تعدّه من أجيال، فإما أن تكون تلك المؤسسات قلعة الأمة وحصنها الحصين والصخرة التي تتحطم عليها أحلام الغزاة، أو أن تكون الثغر الذي يؤتى الإسلام من قبله، مما يحتّم على الأمة الإسلامية أن تعضد من دور تلك المؤسسات التربوية التعليمية، وأن تعمل على تقوية جذورها وأسسها، لكي تقف على أرض راسخة ثابتة من القيم والمثل والمبادئ لأداء رسالتها في إعداد الأجيال المؤمنة العابدة المبدعة.

وتؤكد الحقائق الأكاديمية على أهمية التعليم وضرورته، إذ يعدّ– بمضمونه المعرفي – قوة دافعة للمجتمع لتنوير العقول وتحقيق النهضة الاقتصادية وتفعيل مختلف البرامج التنموية، وإحراز العديد من المكاسب الاجتماعية والثقافية، لذلك فإن قوة المجتمع تستمد أساساً من قوة النظم التعليمية، كما أن ثراءه يعتمد على حسن استثمار العناصر البشرية التي يتمّ تأهيلها وتزويدها بالمعارف كافة وبمختلف المواد التعليمية.

يواجه العالم العربي تحديات ضخمة في الفترةالحالية يجب أن نواجهها بالعلم النافع والتطور الحاصل الذي يوفي بمتطلبات العصر ويسهم في مواكبة التطور الأكاديمي العلمي الذي تشهده الدولة والمنطقة، خصوصاً أن قياداتنا الحكيمة قد فطنت إلى أهمية العلم والتعليم في الحياة الحديثة واهتمت بالإنسان وطوّرت من أدائه حتى يرتقي بوطنه، ويكون قادراً على مواجهة التحديات التي فرضتها العولمة وأثّرت على النواحي الثقافية والتعليمية كافة، وهناك "جانب آخر لتأثير العولمة في التعليم العالي يتصل بالاتجاه إلى وضع نظام عالمي لتقويم المؤهلات ووضع نظم لتحديد المستويات التعليمية، ويضاف إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية عوامل أخرى ذات طبيعة سياسية تقوم على تجاوز الحدود الوطنية بتحديد السياسات العامة للتعليم واتخاذ القرارات التعليمية وبالتالي سيزداد دور المجتمعات المدنية والعمالية في هذا السياق ولذلك سيكون من المهم تعزيز التعاون والتنسيق معالتكتلات الإقليمية التي تنتمي إليها الدول إذا أرادت الحفاظ على هويتها"(2).. "فالعولمة لها انعكاسات مركبة علمية وتقنية وكذلكثقافية، والخطورة كامنة بالأساس في التغيير الاجتماعي المصاحب للعولمة والذي يشمل القيم والعلاقات الاجتماعية، والهدف المضمر هو محاولة تنميط الثقافة وبالتالي تنميطالمجتمع بشكل يخدم مصالح القوى المهيمنة"(3).

وبذلك فإننا أمام مواجهة ثقافية كونية تعمل على تهديد الخصوصية الثقافية للمجتمعات وتقتضي منّا مواجهة العولمة والتصرف بنوع من الذكاء والتحصين الذاتي للأمة العربية، وذلك بجعل التعليم يقوم على استراتيجية متكاملة تعمل على ضرورة توسيع التعليم العالي وتطوير محتواه لتحقيق التنمية والأمن القومي العربي بتفعيل العمل العربي واكتساب القدرةالتنافسية والاستفادة من الخبرات الدولية عن طريق التعاون الايجابي.

والمدقق في رؤية النظام التعليمي الحالي يلاحظ أنه تقليدي غير متطور ولا يسمح في كثير من الأحيان للطلاب بالعمل، بحيث إنه لا يؤهلهم للالتحاق بالوظائف التي تحتاج إمكانات متميزة وتقنيات متخصصة، لذلك يجب أن تكون هناك مساعٍ جادة لتطوير هذا النظام ومساعدة الجامعات على تحقيق هدفها الرئيسي المحدد في تأهيل الطالب لسوق العمل، وتوفير المستلزمات الضرورية لتمكين مخرجات التعليم المهني والتقني في إحداث تحوّل إيجابي في نطاق العمل والعطاء الكامل، وأن تتلاشى الرؤية الدونية للعمل المهني الذي تنهض به البلاد.. بل لا بدّ كذلك من التوسع في الاختصاصات المهنية والتقنية والعمل على(4):

1. تشجيع الطلاب والطالبات على الالتحاق بالتخصصات المهنية والفنية المختلفة.

2. تطوير خدمات التوجيه والإرشاد التربوي والمهني في المؤسسات التعليمية والإعلامية للتوعية بأهمية دراسة التخصصات المهنية والفنية التي تتوافق مع قدرات الدارسين والدارسات من ناحية، ومتطلبات العمل من ناحية أخرى.

3. تطوير المناهج التربوية والخطط الدراسية الجامعية بما يتوافق ومتطلبات سوق العمل، وكذلك دعم قيم الانتماء والمواطنة لدى الطلاب والطالبات.

4. منح حوافز مادية ومعنوية لتشجيع الالتحاق بالتخصصات المهنية والفنية الدقيقة.

5. التنسيق مع كلّ من وزارتيّ التربية والتعليم، والتعليم العالي من حيث توجيه الطلاب والطالبات لاختيار التخصصات المهنية والفنية.

6. التنسيق بين الجامعة ومؤسّسات الدولة المختلفة، وكذلك مؤسّسات القطاع الخاص والأهلي للوفاء باحتياجات سوق العمل ومتطلباته.

7. عقد دورات تدريبية متطورة لتنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس.

8. التوسع في خدمات التعليم والتدريب المهني لكلّ من الجنسين.



وفي هذا السياق يجب ألا نغفل قيمة الحوار وأهميته في المؤسّسات التعليمية الأكاديمية لكونه يحقق التوازن والاستقرار الفكري كما يتمّ من خلاله الموازنة العقلانية في كلّ ما يطرح عليه من أفكار ومقترحات تتعلق بخصوصية الفكر والعقيدة حتى تبقى خصوصيتنا وهويتنا ولا تذوب في خضم العولمة وتتلاشى القيم والمعايير والأفكار والخصوصيات التي تميّز وطننا العربي الأصيل.

وينبغي أن تبدأ أهداف أيّ حوارٍ من الإنسان وتدور حول شؤونه وقضاياه، وتعود إليه، حتى لا يفقد الحوار قيمته وأهميته ومضمونه الغني. ويمكن إجمال أهداف الحوار والتي اتفق المجتمع الدولي اليوم على اعتبارها أهدافًاً إنسانية سامية. وما دام الحوار حركة فكرية وعملية وثقافية وشكلاً من أشكال التعاون الإنساني، فيمكن لنا اتخاذ ما ورد في إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي من أهداف، مثالاً لها. فقد نصَّ هذا الإعلان على الأهداف التالية(5):

1. نشر المعارف وحفز المواهب وإغناء الثقافات.

2.تنمية العلاقات السلمية والصداقة بين الشعوب والوصول إلى جعل كلّ منها أفضل فهماً لطرائق حياة الشعوب الأخرى.

3.تمكين كلّ إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدّم العلمي الذي يحرز في جميع أنحاء العالم والانتفاع بثماره، والإسهام من جانبه في إثراء الحياة الثقافية.

4. تحسين ظروف الحياة الروحية والوجود المادي للإنسان في جميع أرجاء العالم.

5.وهكذا "يفتح الحوار أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدّي إلى تقارب الثقافات، ويسهم في تلاقح الحضارات، وهو ما نصطلح عليه هنا بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون الدولي على مواجهة تحديات العصر ومشكلاته والسعي لحّلها(6).

من المؤكد أن ظهور العولمة يعود إلى مرحلة أبعد، قد تصل إلى قرون مضت. غير أن الشكل الذي ظهرت به في العقد الأخير، وإيقاعها السريع في الانتشار وفي غزو كلّ الآفاق، بفضل اعتمادها على تقنية اتصالية متطورة، يعبّر عن تحوّل نوعي في نظام العولمة وفي استراتيجيتها. ونظراً لأن العولمة كمشروع تاريخي هي عملية لم تنته بعد، فإنه يصعب الإلمام حالياً بكلّ خباياها، أو فهم القوانين المتحكمة فيها بدقة. لذلك فإنه من غير الممكن حالياً تقديم إطار مفهومي شامل للعولمة، بل يمكن فقط الاكتفاء برصد بعض آثارها الدالة عليها ومنها:

o اقتصاد تتحكم فيه الشركات متعدّدة الجنسيات.

o تبادل تجاري غير متكافئ، في المجالين المادي والرمزي.

o تقليص أدوار الدولة القومية، والسير في اتجاه إلغاء الحدود بين الدول.

o ثورة عارمة في مجال الإعلام والتربية والاتصال، والتقنيات المرتبطة بها.

o شيوع ثقافة الاختراق التي تسعى لفرض قيم وفكر واتجاهات وأذواق استهلاكية منمطة.

الإطار العام للبحث:



مشكلة البحث:

تتحدد مشكلة البحث في الإجابة عن التساؤلات التالية:

1. ما مدى تأثير العولمة على النظم التعليمية في الوطن العربي؟

2. هل يمكن التعرف إلى التحديات الداخلية للعولمة التربوية؟

3. هل يمكن الكشف عن سبل مواجهة العولمة التربوية؟

­­­

أهداف البحث:

1. الكشف عن مدى تأثر النظم التعليمية في الوطن العربي بالعولمة.

2. إلقاء الضوء على التحديات الداخلية للعولمة التربوية بالقيم الروحية التي تنمي الوازع الديني وتحقق الوطنية وتحثّ على الانتماء.

3. الكشف عن سبل مواجهة تحديات العولمة التربوية.



أهمية البحث:

1. توضيح ماهية العولمة ومدى تأثيرها على النظم التعليمية في الوطن العربي.

2. التعرف إلى مدى مجابهة الهوية العربية لتيار العولمة.

3. التعرف إلى سبل مواجهة تحديات العولمة التربوية.



حدود البحث:

1) تقتصر الباحثة في دراستها على توضيح مدى تأثير العولمة على التعليم في الوطن العربي وذلك من خلال:

- دراسة ماهية العولمة وأهدافها.

- التعرف إلى مدى مجابهة خصوصية الهوية العربية في ظل العولمة.

- الكشف عن التحديات الداخلية للعولمة التربوية.

- التعرف إلى سبل مواجهة تحديات العولمة التربوية.



فروض البحث:

تفترض الباحثة الآتي:

1. إمكانية الكشف عن مدى تأثير العولمة على النظم التعليمية في الوطن العربي.

2. إمكانية التعرف إلى مدى تصدي الهوية العربية لتيار العولمة التربوية.

3. الكشف عن سبل مواجهة تحديات العولمة التربوية.



منهج البحث:

يتبع البحث المنهج الوصفي التحليلي، لأهميته وملاءمته لمثل هذا النوع من الدراسات.

مصطلحات الدراسة:



العولمة التربوية:

ويقصد بها هيمنة الثقافات الأقوى على ثقافات ومناهج النظم التربوية الأخرى لإزالة الفوارق والخصوصيات التي تحكم السلوك والقيم وتؤدّي إلى اهتزاز المنظومة القيمية.

كما أن العولمة: ظاهرة كونية برزت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وقد اختلف الكثير في هذه الظاهرة، كما زاد الجدل في تعريفها فهي تعني GLOBALIZATION"بالإنكليزية، وهي مشتقة من كلمة " GLOBE "أي تعني الكرة والمقصود بها الكرة الأرضية. والعولمة كفعل مشتقة من " عولم" يعولم". وتعددت التعاريف لمفهوم العولمة، فقد عرف رونالد روبرتسون العولمة بأنها " اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش" بينما عرفها أنتوني غيدنز بأنها " مرحلة جديدة من مراحل بروز وتطور الحداثة، تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج، ويتمّ فيها ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وإنسانية"(19).. والمتأمل في مفهوم هذا المصطلح يجد أنه يحمل معنى الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب، وعلى ثقافتها وأصالتها فكرياً ونفسياً وتربوياً، بل هو مرادف لمفهوم الأمركة الذي يجسد النموذج البرجماتي النفعي.



الدراسات السابقة:

تعددت الدراسات المتعلقة بموضوع العولمة وتنوّعت، وفي ما يلي تلقي الباحثة الضوء على بعض الدراسات المتعلقة بالموضوع.

- دراسة: "معالم المشروع التربوي العربي في مسار العولمة(7)". وهدفت الدراسة إلى تشخيص الواقع العربي من أجل مواجهة التحديات الكبرى، كما حاولت الإجابة عن كيفية التعامل مع المد التربوي للعولمة وكيفية توظيف المرتكزات الفاعلة في نظامنا التربوي لترقية المشروع التربوي العربي العالمي.

- دراسة: "أساليب تعزيز الهوية في مواجهة الهيمنة الثقافية(8)". وهدفت الدراسة إلى الكشف عن آليات وأساليب تعزيز الهوية العربية والإسلامية لمواجهة الهيمنة الثقافية في ضوء الرؤية المعاصرة للتعليم في زمن العولمة، وتوصلت الباحثة إلى أن الثقافة والهوية الثقافية جزء أساسي من الهوية القومية، وأن تفاعل الأصالة والمعاصرة ضروري لحركة التنمية.

- دراسة: "بعض مخاطر العولمة التي تهدد الهوية الثقافية للمجتمع ودور التربية في مواجهتها(9)". هدفت الدراسة إلى محاولة فهم ظاهرة العولمة ثم تقديم تصور مقترح لدور التربية في مواجهة مخاطرها الثقافية، وتوصلت الدراسة إلى أن العولمة لها أبعادها ومظاهرها المختلفة، وهناك شعور بالاغتراب جراء استيراد نماذج ثقافية غربية إلى جانب ضعف الانتماء، وأكدّت على ضرورة بلورة استراتيجية تربوية للاستفادة من إيجابيات العولمة وتحجيم سلبياتها.

- دراسة: "التجديد في فلسفة التربية العربية لمواجهة تحديات العولمة(10)". هدفت الدراسة إلى التعرف إلى كيفية مراجعة تربيتنا العربية لفلسفتها وأهدافها لتواجه تحديات العولمة، وأكدّت على ضرورة وفاء التربية بعدد من الغايات مثل إكساب المعرفة وتنمية الذات وضرورة إعداد إنسان العصر لمواجهة هذه التحديات ومطالب الحياة.

- دراسة: "دور التربية في مواجهة العولمة وتحديات القرن الحادي والعشرين وتعزيز الهوية الحضارية والانتماء للأمة(11)."وقد هدفت الدراسة إلى تسليط الضوء على التحديات المعيقة للتربية العربية وكيفية مواجهتها مثل الاستلاب الثقافي وهيمنة القطب الواحد مع بيان التصدّي لهذه التحديات من خلال بعض المقترحات مثل تعزيز الهوية الحضارية والانتماء القومي.

- دراسة: "دور المعلم في عصر الإنترنت(12)". هدفت الدراسة إلى إلقاء الضوء على دور المعلم في عصر الإنترنت وما طرأ على هذا الدور من تغيير، وتوصلت الدراسة إلى أن دور المعلم ينبغي أن يكون فاعلاً وشاملاً ليؤدي إلى تكاملٍ في شخصية الطالب من خلال تعريفه بوسائل الاتصال والتقنية الحديثة وإجادة استعمالها في العملية التعليمية، إلى جانب تنمية شخصية المتعلّم ليكون قادراً على الإبداع والابتكار.

- دراسة كلّ من: (هوو وميرامونتز(13) Howe & Miramontes(1992) وقد هدفت إلى تعزيز النواحي الأخلاقية التي تحكم العمل في مجال التربية، ويركزان على الانطلاقة الفلسفية التي تحدّد الأخلاقيات والقيم والمبادئ الحاكمة للعمل التربوي والنظريات التي تأسست عليها، كما ناقشا الضغوط والظروف والاحتياجات المجتمعية والمؤسساتية وتأثيرها على هذا المجال، ودور المعلم في التفضيل والموازنة بينها، ومكانة الوالدين ودورهما كمصدر للضغوط، كما لخّصا اللائحة الأخلاقية المهنية ودورها في تفعيل أخلاقيات العمل واستثمار الجهود المبذولة في إطاره.

- دراسة (بورتز(14) Portz (1999). وهدفت الدراسة إلى إلقاء الضوء على التحديات التي تعترض التطور المستقبلي للمعلمين، وكيف يمكنهم مواجهتها إذا التزموا بنصائح عشر هي بمثابة دروس مهنية للعاملين في مجال التربية :

1- أهمية المرونة على مستوى التفكير والتخطيط وتبنّي الاتجاهات للارتقاء المهني.

2- الالتزام المهني طريق موصل لنيل الثقة والاحترام والتقدير والاستحقاق.

3- التلقائية والابتكار واستلهام الأفكار سريعاً من المعطيات المعروضة.

4- التواصل مع الآخرين ومناقشة الأفكار والمقترحات معهم.

5- القراءة والاطلاع والحرص على حضور اللقاءات والندوات وبرامج التدريب.

6- تقبّل الحوار والمناقشة واحترام الحلول البديلة.

7- المرح في جدية لتخفيف ضغوط المواقف الطارئة.

8- البحث عن الإلهام في كلّ مكان.

9- التعبير عن الإنسانيات ومشاركة الآخرين خبرات الحياة.

10- احترام الآخرين.

- دراسة منال عبد الخالق (2004). "العولمة ورؤية جديدة لدور المعلم في ضوء صراع الدور وأخلاقيات التدريس(15)." تشير الدراسة إلى معلم عصر العولمة وما يواجهه من تحديات راهنة ومستقبلية متحملاً معاناة صراع الدور ومتسلحاً بأخلاقيات التدريس لكي ينجح يوماً في أنسنة العولمة وتحقيق المصالحة والاتساق بين أدواره العديدة وصولاً إلى التطوير المهني في ظل الالتزام الأخلاقي.





خطوات البحث:



أولاً: العولمة والنظم التعليمية في الوطن العربي:

لا شكّ أن مرحلة العولمة التي يستهدفها العالم في الوقت الحاضر تحمل في طياتها آثاراً وانعكاسات متعدّدة الجوانب تنعكس على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وقد نجد انعكاساتها تأخذ جانبين منهما ما هو قائم حالي وما هو محتمل مستقبلي يرسم معالم الغد نتيجة إفرازات ظاهرة العولمة، كما توصف نتائجها وإفرازاتها مابين السلبية والإيجابية(16).

إن الافتقار إلى الأخلاقيات في عصر العولمة كارثة محدقة، وإذا لم ننتبه في مدارسنا إلى ذلك فإننا نخرّج متعلمين يجيدون ممارسة كلّ شيء إلا كلّ ما هو أخلاقي، وحركة التربية المعاصرة بما تتخذه من استراتيجيات وتوجهات، وبما ترنو إليه من توقعات وآفاق، لتؤكد أن مجال التربية ميدان إبداعي بقدر ما هو ميدان تحدّ واختبار، يضع إنسانية المرء وأخلاقياته على المحكّ. فالتربية يجب أن تكون قادرة بأدبياتها ومؤسّساتها على إلقاء الضوء والتأكيد على أهمية السلوك الأخلاقي المهني ضماناً لاستمرار قدرة العاملين في المجال على دعم مؤسّساتهم وتفعيل دورها في ظل الأزمات الاقتصادية أو الظروف المحلية المعوقة، أو الحملات الهجوم المغرضة.

ولذلك فإن على المعلم أن يقبل حقيقة كونه نموذجاً أخلاقياً يحتذى به على مدار الساعة يومياً، ويجب أن تكون لديه القدرة على تبرير سلوكه وإيضاح القيم التي تدعمه، سواء مع طلابه أم مع أولياء أمورهم أو مع المجتمع ككل، وأن يتذكر دائماً أن تربية فرد واحد قد تصنع فرقاً على مستوى المجتمع ككل، وأن النجاح في ذلك ليس سهلاً ولا يمكن أن يتمّ عفوياً ومن غير ضوابط، والثقة عندئذ قاعدة أساسية في التعامل والحوار تجعل كلّ شيء ممكناً ومقبولاً، فهي مسألة ضمير أن تعمل وتسلك، بل أن تفكر وتحلم وأن تتواصل، من هنا تتأتى قيمة كلّ فرد حيث إنه كيان قيمي في حدّ ذاته، منه تنبع وتنطلق القيم وبه تطبق وترسخ، كما أن لكلّ قرار أخلاقي مبرراته استناداً إلى مبدأ أو دستور أو لائحة.

وتحدد كامبل(17) Campel (2000) عناصر ستة يرتبط بها المعلم خلال عمله هي:

1- ذاته التي بين جنبيه والتي تنطوي على شعوره بالتكامل والاستقلالية والتميّز في العلاقات مع الآخرين.

2- الطلاب كأفراد وكجماعات يمثّلون مراكز الاهتمام الأولى ومحل المسؤولية الأساسية.

3- غيرة من المعلمين كأفراد وكجماعات على العمل التربوي لكونه واجباً من واجبات الانتماء والولاء.

4-إدارة المدرسة متمثلة في مديرها وإدارييها.

5-الآباء وأولياء الأمور.

6-المجتمع الخارجي.

وهي عناصر تفرض على المعلم مهاماً وواجبات تتصارع في حدّ ذاتها ولا تتكامل في كلّ الأحوال، فقد يضطر إلى الانتصار لأحد الأطراف على حساب الآخر، وعدم الاتساق هذا قد يفرض نفسه على المعلم الذي يلتزم التزاماً صارماً بمبدأ محدّد ولا يكون مرناً متفهماً يطوّع القاعدة الأخلاقية من دون كسرها.

وللعولمة كما يذكر فورست(18) 2002 )Forest ) تأثيراتها القوية المتزايدة على مدى واسع من نشاطات المرء السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي مجال التعليم تفرض العولمة تحديات واهتمامات متنوعة تحتم الالتفات إلى برامج مواجهة متطلبات الانفجار المعرفي وتقنياته الحديثة.

التحديات الخارجية للعولمة التربوية:

العولمة ظاهرة مركبة وأيديولوجية قديمة يسعى الغرب من خلالها للسيطرة على العالم وفرض ثقافته، فهي ليست ظاهرة اقتصادية أو سياسية أو تقنية أو معلوماتية فحسب، بل هي ظاهرة تاريخية، كما أنها "ليست ظاهرة جديدة بل قديمة قدم التاريخ عندما كانت تتصدر حضارة ما كباقي الحضارات وتقود العالم"(20)، وفرق بين العولمة وعالمية الإسلام التي هي رسالة قيمية ودعوة أخلاقية.

ومن أجواء العولمة "تولدت مصطلحات نظام العالم الجديد، والقرية الإلكترونية، واقتصاد السوق، وحرية التجارة والاستثمار والشركات المتعددة الجنسيات، والعرض والطلب، ونهاية التاريخ وصراع الحضارات، وما بعد الحداثة، والهوية الثقافية وغير ذلك"(21)، ويوضح (البنا) أن العولمة التي يدعون إليها اليوم ليست إلا الصورة الأخيرة لعولمة الإمبراطورية الرومانية ذات السيف العريض ثم الأسطول البريطاني العتيد والآن سلاحها هو التكنولوجيا والأقمار الصناعية(22)، والعولمة كما يبين (المسيري) تذويب للخصوصيات القومية والخصوصيات الدينية، أي أنه اتجاه يعادي أيّ نوع من القيم سواء كانت قيماً قومية أم قيماً دينية، فهي "تستند إلى مجموعة من القيم وهي في الواقع قيم مادية تنفي الخصوصية الإنسانية، تنفي الإنسانية كإنسانية، وتحاول في ذات الوقت أن تطرح رؤى تدور حول القيم التي جوهرها الإنسان الاقتصادي المادي الجسماني(22)، فهي تستغل المعلومات الكونية لتعميم وترويج وتسييد القيم والثقافة الأميركية.. وأياً كان الأمر فالعولمة حقيقة قائمة لا يجوز الهروب منها أو تجاهلها أو الاستسلام لها، وهي من ظواهر العصر المتسارع تحمل في ثناياها الكثير من التحوّلات، ويتولّد عنها تحديات تقليدية وغير تقليدية ناتجة عما تمتلكه من تكنولوجيا اتصال، وتعتبر العولمة من التحديات المصيرية التي تهدد ثقافة الأمة، لما لها من آثار سلبية ضاغطة ذات أبعاد عمودية وأفقية (عمقاً واتساعاً).

وللعولمة ثقافتها "وهي ثقافة غير مكتوبة، قيمها مبثوثة عبر الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وعبر أساليب الحياة اليومية في الطعام والشراب والكساء والمواصلات والهاتف والتلفاز ونظم التعليم وفرص العمل والمعرفة باللغات الأجنبية الهجرة إلى الدول الأجنبية للدول الصناعية"(20). وتشكّل العولمة التربوية والثقافية أخطر أنواع العولمة إذ يمكن اعتبارها عملية اغتصاب ثقافي تربوي للفرد والأمة والمجتمع وقهر لهم جميعاً، ويتضح ذلك من التدخلات الخارجية بتغيير المناهج وعملية التعليم، واستخدام وسائل الدعاية والإعلام وشبكات الاتصال الحديثة كالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وشاشات الحاسوب لتنفيذ ذلك حتى يمكن هدم المنظومة القيمية واهتزاز النظم التربوية.. ويبيّن (الجميل) أن "التأثير سيكون كبيراً، وعليه لا بدّ من أن تحكم العملية تربوياً، ولا بدّ من التشديد على التربية أي تربية الجيل القادم. فلا خوف من حدوث تشرذم لأن الجيل الذي يتربّى متماسكاً على أسس حضارية متينة لا يخيفنا مصيره كونه سيتحمل المسؤولية من بعدنا، لكن إذا لم يكن هناك تطوير في المناهج التعليمية، كيف يتربّى الأطفال في البيوت وكيف يتدربون في المدارس وكيف يتلقون العلم في الجامعات؟(23)".

ويمكن إجمال التحديات الخارجية للعولمة التربوية بما يلي:

1. التدخلات الخارجية في نظم التربية والتعليم(21).

إن البرنامج الأميركي يسعى لتكوين ناشئة عربية مسلوبة الهوية والانتماءات الوطنية والقومية، كي تؤمن بنموذج الحياة الأميركي وتدعم مصالحه وأساليب هيمنته.

2. استهداف الهوية الثقافية: وذلك من خلال التحديات القديمة والمتجددة المتمثلة في (التبشير والاستشراق والاستغراب) والتي تتجدد باستمرار في صورها وأثوابها ووسائلها.. والتي منها:

‌أ- التسلل المتواصل للمفاهيم المغلوطة.

‌ب- الانبهار والاستلاب الثقافي(24).

3. الابتزاز التربوي بالمنح والمعونات الخارجية:

تمثل المنح والمعونات الخارجية المقدمة للجهات الحكومية أو الأهلية في الكثير من الدول العربية عامل ابتزاز وضغط وتوجيه لإنفاذ كثير من المخططات المشبوهة مما يجعل كثيرًا من الجمعيات الأهلية المدعومة من الغرب أداة لمحاربة التربية الإسلامية والعمل على طمس الهوية، فماذا تفعل المدرسة في جوّ تكثر فيه المنظمات والجمعيات والمؤسسات الخدمية والأهلية ذات الأهداف اللادينية(25).

4. دمج القيم العالمية في مناهج التعليم (التربية الشمولية):

تحاول منظمتا اليونسكو واليونيسيف دمج القيم العالمية في مناهج التعليم وترسيخ الأفكار الداعية للنظام العالمي الجديد في اتجاهين، الأول يتمثل في الجهود لوضع برنامج للشرق الأوسط في مجال التربية الشمولية، والثاني في برنامج للتنمية التربوية لدول حوض البحر المتوسط، والمشروع الأول تحت اسم "Global education".

وتتضمن التربية الشمولية أربعة أبعاد:

البعد المكاني: ويركّز على تعزيز الوعي بعلاقة الاعتماد المتبادل بين البشر في نظام عالمي يكون فيه المحلي ضمن الكوني، والكوني من ضمن المحلي.

البعد الزمني: إن عنصر مواجهة المستقبل في المناهج الدراسية يعتبر شرطاً مهماً ومسبقاً لتنمية قدرات ومهارات التلاميذ ليصبحوا في وضع يمكنهم من التحكّم في اتجاه التغيير وأكثر قدرة على التكيّف مع مجتمع سريع التغير.

بُعد القضايا الكونية الشاملة: فالقضايا الكونية متداخلة كتلوث البيئة والاعتداء على حقوق الإنسان وعدم المساواة.

البعد الداخلي: ويقوم على أن يتعلم الأطفال أن حياتهم متداخلة مع مشكلات الغير وطموحاتهم، ومع البيئات التي تبعد عنهم آلاف الأميال، وقد تمّ تنفيذ مشروعين تجريبيّين في لبنان والأردن بالتعاون مع المعهد الدولي للتربية الشمولية ومنظمة اليونيسيف في عمان، حول تطوير وتدريس موضوعات تدرس منفصلة أو ملحقة ببعض المواد الدراسية مثل العيش المشترك وتفهم الاختلافات وتجنب الصراعات وحلّ النزاعات ونظرتنا لذواتنا والآخرين، ورفض العصبية والعرقية والآراء المسبقة، والمستقبل.

5. الدور الإعلامي المناقض للدور التربوي المدرسي:

يعدّ الإعلام وسيلة للتعبير والتوجيه، ووظيفته الحقيقية تتحدّد في التثقيف والتعليم والإرشاد والنصح، وتتضح خطورة الإعلام، ولاسيما في عصر الفضائيّات بتحوّله إلى أداة لهدم القيم والنيل من الرموز، مما يجعله يمثل خطراً على العملية التربوية ذاتها، فإما أن يدعمها ويتكامل معها أو يضادها ويعيقها، وتحاول العولمة مسخرة الإعلام لدفع الإنسان وتنحيته بعيداً عن التربية والأخلاق بإشاعة الجنس والجريمة والتمرد لدى الأجيال وقتل أوقات الشباب في تلك المعصيات وقد "أثبتت الدراسات الحديثة خطورة القنوات الفضائية بما تبثه من أفلام ومسلسلات مسيئة للنظام التعليمي والحياة الثقافية والعلاقات الاجتماعية ونمط الحياة الاقتصادية في العالم الإسلامي" (26).

فماذا تفعل المدرسة أمام الإعلام الذي يشيع الفاحشة ما ظهر منها وما بطن من نشرٍ للأفكار الغربية المنحلة من خلال ما يطرحه من مفاهيم حول الحرية الشخصية والزواج المبكر والعلاقة بين الجنسين وما يعرضه من صور تخدش الحياء وتقدح في الرجولة وترخي العنان للرغبات والشهوات وتؤدي إلى التخنث والميوعة والانحلال والإباحية والتحلل الخلقي،وإشاعة الجنس والعنف والجريمة.

ويحذر (مبروك) من خطورة الإعلام مبيناً أن "الإعلام يحمل غسيلاً للأدمغة ويسعون من خلاله لمحو تراثنا وكلّ يوم يفتتحون محطات جديدة للسيطرة الإعلامية الكاملة فهم يوجهون المعلومات ويشوهون التحليلات وينشرون الفجور ويسعون لطمس ديننا وهويتنا، متسلّلين إلينا من وسائل الإعلام والسينما ووسائل التثقيف، فهذا الإعلام العالمي الذي تمثله العولمة تحكمه أميركا وإسرائيل في النهاية وهو لا يجلب خيراً لنا وإنما دماراً لشعوبنا"(22).

فالإعلام من أشدّ وسائل التربية خطراً لسهولة تقبله فبدلاً من أن يسهم مع المدرسة ويأخذ دوره الحقيقي في بناء الأجيال وغرس القيم الأصيلة، نراه ينشئ جيلاً فارغاً من العقيدة محطم الشخصية مزعزع الثقة بتاريخه وأصالته.

6. مادية ثقافة العولمة وخطرها على البناء الروحي:

إن ثقافة العولمة ثقافة مادية بحتة لا مجال فيها للروحانيات والعواطف، ممّا يجعل تحدي المؤسّسات التعليمية في هذا المجال هو الحفاظ على ديمومة المجال الروحي الصحي السليم للطلاب والطالبات ببثّ مفاهيم التكافل والتعاطف والتواد والإيثار وكلّ القيم النبيلة.



ثانياً: التحديات الداخلية للعولمة التربوية:

تبرز في ظل هيمنة العولمة كثير من التحديات الداخلية، وتصبح مواجهتها أكثر إلحاحاً على قائمة الأولويات، فالضعف الداخلي ينعكس حتماً على قدرة النظام التربوي على المواجهة بفعل الإصابات الداخلية، كما أن جذور العولمة تتمدّد في التربة الرخوة للتربية، بالإضافة إلى كون العولمة تكريساً للأزمات المتلاحقة، لذلك يشكل الاستقرار التربوي القائم على فلسفة واضحة الضمان الحقيقي والطريق الآمن للخروج من متاهات العولمة وهيمنتها.

ولقد تغيّر مفهوم التعليم تغيراً جذرياً وشاملاً في هذه الحقبة الزمنية التي تظللها العولمة وتسيطر عليها آثار الثورة التكنولوجية والنفوذ الإلكتروني، فمع سيادة نظام العولمة أصبح هذا التعليم ضرورة للأمن القومي وما يرتبط به من الجودة الشاملة (27). إن أمتنا العربية والإسلامية تواجه اليوم ولسنوات قادمة تحديات كثيرة أخطرها التحديات التربوية التي في ضوئها مصير الأمة قوة أو ضعفاً، وتمثل في أحد جوانبها صراعاً ومقاومةً دفاعاً عن الاستقلال ضد التبعية.

ويمثل واقع العولمة صدمة لإيقاظ الأمة ودفعها إلى التجديد والنهوض واضطلاعها بمسؤولياتها في مواجهة مخاطر العولمة والدفاع عن هويتها من التماهي والضياع. فالتعليم هو المدخل الفعلي لمواجهة التداعيات السلبية للعولمة وامتلاك رؤية واضحة لبناء إنسان متجدد قادر على فهم العولمة ومواجهتها، فأمتنا اليوم في خطر، ولا سبيل لمواجهة العولمة إلا بالتربية التي تعطي إجابات واضحة لمعرفة من نحن، وما هويتنا، وماذا نريد وما هو الإنسان الذي نسعى إلى إيجاده وإعداده.

يعاني النظام التربوي أساساً من أزمة تربوية تختلف حدتها من بلد إلى آخر، منها ما يتعلق بالتعليم وسوق العمل، فنحن نتعلم وفقاً لطاقة التعليم المتاحة لا وفقاً لحاجاتنا الفعلية، وفي ظلّ فلسفة تربوية تضع حواجز بين المعارف النظرية والمهارات العملية، ومنها عدم تكافؤ فرص التعليم وأسبابها الدروس الخصوصية، وتعدد مسارات التعليم فهناك ازدواجية تربوية بين تعليم النخبة وتعليم العامة، والعزوف عن مداومة التعليم وسلبية المعلمين، فمنهم قادة الثورة التربوية وعدم فاعلية البحث العلمي وانفصاله عن المشكلات العملية وتدني مستوى الخريجين والكادر التعليمي الضخم، وفقدان المجتمع ثقته بمؤسّساته التعليمية، وعدم تعريب العلوم، وتخلف المناهج وطرق التدريس وضعف الإدارة التعليمية.

وبذلك "فالتعليم في هذا العصر ليس مجرد تنشئة للفرد المسلح بالعلم والقادر على الإنتاج وإنما هو قضية أمن قومي. فالمجتمع الذي تتفشى فيه الأمية ويسوده الجهل ويسهل اختراقه والسيطرة عليه، وغزوه فكرياً وثقافياً وعقائدياً عن طريق شبكة المعلومات الدولية ووسائل الاتصال الحديثة فائقة السرعة والتي تحمل أفكاراً ومبادئ لا تتناسب مع عقائدنا ومبادئنا"(27).. ومن أسباب ذلك الغزو:

1- افتقاد الفلسفة التربوية الإسلامية(28).

2- غياب المعلم القدوة(29).

فالمعلم القدوة غدا حاجة ومطلباً ضرورياً، ولقد نتج عن "التزايد المطرد لعدد الملتحقين بالمدارس في العالم حشد مكثف للمعلمين جرى في كثير من الأحيان بموارد مالية محدودة ومن دون أن يتسنّى دائماً العثور على المعلمين الأكفاء. وأفضى الافتقار إلى الموارد المالية وإلى الوسائل التعليمية، فضلاً عن اكتظاظ الصفوف إلى التردي الخطير لظروف عمل المعلمين(30)".

وتتلخص أسباب غياب المعلم الفاعل في(29):

- إن إعداد المعلم لا تتمّ فيه عملية التوأمة والتكامل بين الإعداد للمادة الأكاديمية والتأهيل التربوي.

- يتمّ التدريب أثناء الخدمة على شكل محاضرات بدلاً من ورش عمل.

- عزوف الشباب عن هذه المهنة، فالملتحقون بدور إعداد المعلمين هم من ذوي المؤهلات المنخفضة.

- أصبحت مهنة التعليم مهنة مَن لا مهنة له، لذا يجب أن يكون الترخيص بالتعليم مشروطاً بحصول المعلم على عدد من الوحدات الدراسية ويعطى الترخيص كلّ مدة زمنية محدّدة.

- بالنسبة لكفاية برامج التعليم ظلت الكفاية الداخلية والكفاية الخارجية دون المستوى المطلوب عالمياً ومحلياً لمدة طويلة ملحوظة بنواتج هذا التخلف وانعكاساته على الظاهرات الاجتماعية والخدمات(21).

"إن مواجهة تحديات العولمة تستدعي إصلاحات كثيرة للنظام التعليمي، وينبغي على المعلمين أن يتعاملوا مع البرامج الحاسوبية التعليمية والتعلم بالوسائط المتعددة والتعلم التفاعلي والتمدرس الافتراضي والتعليم بالاتصال المباشر من أجل تحفيز عملية التعلم، تلك العملية التي تؤدي للوصول إلى الأعمدة الأربعة للتربية وهي تعلّم لتكون وتعلّم لتعرف وتعلّم لتعمل وتعلّم لتعيش (31).

3- جمود النظام التعليمي(25):

4- نقص الميزانيات: ومن التحديات التي يواجهها التعليم نقص التمويل المتاح، فالميزانيات المخصّصة للتعليم لا تفي بالاحتياجات(21).

5- نظام الترفيع من دون إنجاز أكاديمي: ليست نسب النجاح المرتفعة هي الغرض النهائي من التعليم ولكنها مؤشر من بين عدد من المؤشرات، فليس الهدف كمياً، فأسلوب الترفيع الآلي الذي يتبع في مدارسنا العربية والذي بموجبه ينتقل الطالب من فصل لآخر، تكون محصلته النهائية عبارة عن طالب لا يستطيع أن يقرأ قراءة جيدة أو أن يكتب كتابةً صحيحةً.

6- تدني نوعية التعليم: فمن التحديات التي تواجه المؤسّسات التعليمية "الطلب المتزايد على التعليم المدرسي من دون إدراج نوعية التعليم المقدّم في عداد الأولويات. ومن هنا كان اكتظاظ المدارس وإتباع أساليب بالية للتدريس تقوم على الاستظهار والاعتماد على معلمين عاجزين عن التكيف مع أساليب التعليم الحديثة مثل المشاركة الديمقراطية في أنشطة الصف والتعلم التعاوني وحلّ المشكلات التي تتطلب قوة إبداعية وهذه المشكلات جميعها أصبحت تشكل الآن عقبات كبرى أمام توفير تعليم أفضل"(30).

7- العجز التربوي:

إن عجز النظام التربوي عن إخراج المبدعين له أكثر من دلالة خطيرة، ولعل أبرزها اهتزاز الثقة بهذا النظام(24).



­ثالثاً: سبل مواجهة تحديات العولمة التربوية:

إن التحديات والمخاطر التي تنجم عن العولمة كبيرة وخطيرة، ولهذا فإن سبل مواجهتها يجب أن تكون بحجم تلك التحديات. فالاستجابة تكون على قدر التحدي، ولذلك فإن سبل مواجهتها تأتي على أسس متنوعة كما يلي:

أ- سبل مواجهة التحديات الخارجية:

1- تبنّي موقف تربوي وسياسي موحّد ضدّ التدخلات والضغوط:

تستدعي مواجهة التدخلات الخارجية أن يستشعر القائمون على أمور الأمة الخطر الذي يتهدد كيان الأمة وشخصيتها وأجيالها لقرون قادمة، واعتبار أن مقاومة هذه التدخلات وعدم الانصياع لها هو واجب وطني وإسلامي، ودين يدين به المسؤولون والتربويون، لذلك فإن تبنّي مفهوم النظام الأمني العربي الإسلامي هو الطريق للتصدي لمحاولات الاختراق الثقافي والتربوي والنفسي(32)، وذلك بتوحيد الصف في مواجهة الضغوط والتحديات من خلال منظومة عربية إسلامية واحدة، ومن خلال تكامل تربوي واقتصادي وسياسي، ربما يبدو ذلك صعباً إلا أنه ليس مستحيلاً.

إلى جانب توعية الأجيال بخطر الاستسلام للهيمنة على العالم الإسلامي من خلال العولمة، وعقد المؤتمرات الرسمية والأهلية لمناقشة التقارير والخطط التي تستهدف الأمة من الداخل باستهداف صروحها التربوية، "فمواجهة هذه التدخلات تتطلب عملاً جماعياً للوعي بتداعياتها واقتضاءاتها حاضراً ومستقبلاً، ولا بدّ من الدعوة العاجلة إلى مؤتمر تربوي أهلي عام تُناقش فيه هذه التقارير ذات الصلة بالتعليم، وتشترك فيه المنظمات المهنية ونقابات المعلمين ورابطة التربية ومختلف الجمعيات التربوية والنفسية وممثلون عن جميع كليات التربية وأهل الفكر والرأي، ويكون هدف المؤتمر إصدار إعلان لمواجهة برامج هذه المخاطر الأميركية(25).

2- التحصين الثقافي: تسعى العولمة التربوية والثقافية إلى فرض النموذج الغربي في التفكير وطرائق الحياة، مستخدمة التدخل السافر في المناهج لتغيير عقول الناشئة وطمس هويتها العقدية، ليسهل بث القيم الأميركية البديلة، لذلك فلا بدّ من تأكيد الهوية العربية الإسلامية المحافظة على أصالتها والجمع بين الأصالة والمعاصرة(33).

3- العناية باللغة العربية:

إن اللغة العربية ليست أداة للتخاطب فقط، بل هي وعاء ثقافي وهوية إسلامية فهي لغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها هو حفاظ على هذه الهوية وعلى هذه الثقافة، فهي فكر وذات وعنوان ولغة تفكير وتعبير، ويشكل امتلاكنا للمعارف والتكنولوجيا بهذه اللغة الطريق لتمثل هذه التكنولوجيا وإنتاجها(34).

4- إصلاح مناهج التربية والتعليم:

إن التربية من أهم القوى الفعالة في التغيير والإصلاح، فهي التي تؤسس المفاهيم وتحولها إلى أفكار وممارسات، فكيف إذا عمل المنهاج على التخريب من خلال طمس صحة العقيدة وتغيير الانتماء والهوية باستبدال رابطة العقيدة، والدعوة إلى الديمقراطية الغربية والعمل على هدم النظام الاجتماعي باستبدال نظام علماني، وترسيخ مقياس النفعية والدعوة إلى الحريات العلمانية.

لذلك لا بدّ أن تنطلق عملية الإصلاح من خلال إصلاح المناهج وفق فلسفة تربوية إسلامية مستمدّة من مصادر التشريع والاجتهاد، "فمناهجنا الدراسية حصن لهويتنا العربية والإسلامية في عالم يموج بتيارات العولمة، ومحاولتها تنميط الحياة وقولبتها في صور ونماذج حياة القطب الواحد المهيمن، وهي التي تمدّ الأبناء بمقومات هويتنا الثقافية وخصوصيتنا الحضارية، وكلما ازدادت الضغوط العولمية، يتنامى في مناهجنا الوعي ويحتدم بتلك المقومات، ويظهر جلياً السعي إلى مقاومة كلّ ما تهدف إليه العولمة من أمركة في المصالح والعقول، حيث إن مناهجنا تقف بصلابة ضدّ مواجهة تهميش الثقافات الوطنية الإقليمية"(21).

ويجب أن تؤكد مناهجنا على خصوصية حضارتنا العربية الإسلامية وأهمية التعاون والتكامل التعليمي والثقافي بين أقطار الوطن العربي، وإعادة صياغة برامج إعداد المعلمين في ضوء تحديات العولمة لجعلهم قادرين على أداء أفضل، والأخذ بمبدأ النموّ المهني المستمر للمعلم وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمعلمين حتى يشعروا بالأمن الوظيفي ويتنافسوا في أداء رسالتهم(35).

5- تنمية ثقة الأمة بنفسها واعتزازها بعقيدتها وهويتها:

يشكل الانهزام النفسي عاملاً خطيراً لفناء الأمة، فالتربة الرخوة المشبعة بالهزيمة وفقدان الثقة هي التربة المناسبة لكي تضرب العولمة بجذورها فيها وتتمدد بما يزيد من تأثيرها وفتكها، لذلك لا بدّ من تربية الأمة والمجتمع والفرد على مقاومة روح اليأس والسلبية بتعزيز ثقة الإنسان بعقيدته التي تميزه عن الأمم الأخرى، وتحريره من المجال المغناطيسي للانبهار بالغرب وتربيته والتخلّص من مركّب النقص والتبعية، فهو مخلوق مكرّم ومستخلف ويجب أن يبدي رأيه ولا يحقر نفسه.

إن ظاهرة العولمة موجودة ولكن يجب التعامل معها من منطلق "الثقة بقدرتنا على المواجهة، فعملية محاولة إنهاء الثقافات وتنميط البشر على ثقافة غربية واحدة، يقيناً سيفشل، إذن علينا أن نثق بأن هويتنا الحضارية ستكون راسخة، خصوصاً أن الهوية الإسلامية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية كونية، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى"(22).

6- التربية على مبدأ الانفتاح الواعي والتفكير الناقد:

وهذا لا يتأتى إلا بالثقافة الإسلامية الشاملة مع عدم التبعية لثقافة الآخرين، ولا يتمّ إلا بالحفاظ على التربية وعلى المدرسة من الانغلاق على الذات فالحكمة ضالة المؤمن، ولكن بالانفتاح الواعي المتوازن على كلّ ما لا يتعارض مع الأصول ومع التخير والانتقاء، وذلك من خلال تنمية مهارات التفكير الناقد والهدف منها هو إعداد مواطن يقظ وواعٍ لا يتقبّل كلّ ما يسمع ويقرأ بل يتأمل ويناقش ويفهم.

7- استقلالية مصادر التمويل:

من الضرورة أن تعمل المؤسسات والجمعيات المخلصة التي تحمل مسؤولياتها بعزة وأمانة أن تبحث عن موارد بديلة ومستقلة أو ذاتية تتكامل فيها الموارد والمصادر، والتحرر من وصاية الدول المانحة، حتى لا تقع فريسة الابتزاز وتمرير مخططات مشبوهة(25).

8- تبني قيم الإسلام العالمية في مواجهة قيم التربية الشمولية:

يجب أن يتحمّل التربويون مسؤولياتهم في التنبيه لما تحاوله المنظمات الدولية المهتمة بشؤون التعليم من تضمين المناهج لقيم العولمة، والتفريق بين قيم الإسلام العالمية وقيم العولمة التي تعمل على إزالة الفوارق والحواجز بهدف اختراق النظم التربوية وتغييب الأفراد عن وعيهم بتاريخهم وهويتهم، فلا تشابه بين تربية الإسلام القائمة على قيمه الإنسانية العالمية، وبين العولمة وتربيتها الشمولية التي تغلف قيمها الزائفة عن السلام والعيش المشترك وحسن الجوار، والتي تعمل عن تذويب القيم الأخرى وسحق هويتها واستنزاف خيراتها، فقيمها تكرس الأنانية وتعزز المصلحة الشخصية وتنمي الحرية الفردية دون مصلحة الجماعة، "إن الفرق بين عالميتنا وعالميتهم كبير جداً، فليس كلّ من ادّعى العالمية أو تكلم على بعض الأزمات من منطلق (Universal) أو (Global) أو (International) هو مناد بالعالمية كما نفهمها وندركها بل معظم تلك النداءات أو كلها صادرة عن إيمان بمركزية الغرب"(36).

لذلك فالمطلوب هو التربية الإسلامية التي تقوم على قيم مشتركة جامعة، والتي يجسدها الإنسان الصالح المصلح ذو البناء التربوي المتكامل، الذي يحمل قيم العدل والسلام والحرية الحقيقية، والكرامة والإنسانية والقيم المطلقة، مع احترامه لخصوصيات الآخرين، لذلك يجب أن تضطلع العملية التربوية بمسؤولية إنتاج نماذج المثل الأعلى التي تبرهن على خلود قيم التربية الإسلامية الصالحة لكلّ زمان ومكان، والقادرة على تشكيل الإرادات واكتشاف الطاقات.

9- تفعيل المسرح المدرسي:

يجب على مختلف المؤسّسات التعليمية تفعيل دور المسرح المدرسي لتقديم التاريخ النقي بعيداً عن دسائس وتشويه المستغربين والمستشرقين، وبعث التاريخ الإسلامي المشرق وبثّ قيم الأمة وعزتها وعطائها الحضاري، واستدعاء التاريخ والوعي به وليس مجرد القراءة فقط، فالتاريخ الإسلامي جزء من هوية الأمة واللغة والعقيدة والتاريخ وهذه الهوية بعناصرها تشكّل خطوط دفاع في مواجهة العولمة، مع ضرورة استعمال اللغة الفصحى الميسرة والابتعاد عن العامية المبتذلة في الأداء المسرحي.

10- تطوير البرامج الإعلامية:

إن الإعلام النافع والمشوق يعتبر وسيلة من وسائل مواجهة الإعلام الهابط الذي يعمل على نقل ثقافة الغرب استجابة لسلطان العولمة، لذلك يجب أن ينطلق الإعل