المنهج التاريخي
يعد المنهج التاريخي أول المناهج النقدية ظهوراً في العصر الحديث, فقد ارتبط بالفكر الإنساني وبالتطور الأساسي له, وانتقاله من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. وانبثق المنهج التاريخي داخل المدرسة الرومانسية.(1)
المنهج التاريخي : يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب, ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه وغموضه. ويعني المنهج التاريخي بدراسة العوامل المؤثرة في الأدب , بعبارة أخرى أن: الطابع التاريخي والسياسي والاجتماعي لازم لفهم الأدب وتفسيره, لذا لايكون الأديب عبقرياً لو تقدم عصره أو تأخر عنه مادامت عوامل البيئة قد وجهته, وأفرزته إلى هذه الوجهة.(2)
فقد ظهر في هذا السياق ناقدان إنجليزيان هما "جونسون" و "دريدن". كما أن فرديناند برونتير)1849-1906) ، الناقد والمفكر الفرنسي, طبق النظرية في ميدان الاجتماع والأخلاق على الفنون الجميلة والأدب. فقد لاحظ أن التطور في حقل الظواهر الأدبية كثيراً ما يؤدي إلى بروز نوع جديد تتضح فيه بقايا نوع سابق على نحو تطور الكائنات العضوية في نظرية (داروين) وسانت بيف ( 1804-1869) ، الناقد الفرنسي الذي ركز على شخصية الأديب تركيزا مطلقا ، إيمانا منه بأنه "كما تكون الشجرة يكون ثمرها" ، وأن النص "تعبير عن مزاج فردي" ، لذلك كان ولوعا بالتقصي لحياة الكاتب الشخصية والعائلية ، ومعرفة أصدقائه وأعدائه ، وحالاته المادية والعقلية والأخلاقية ، وعاداته وأذواقه وآرائه الشخصية ، وكل ما يصب فيما كان يسميه "وعاء الكاتب" الذي هو أساس مسبق لفهم ما يكتبه، حتى وإن " كان نقده قد سمي بالنقد التاريخي فمن الواجب أن نفهمه على أنه هو النقد التفسيري. ويرى بأن الأدب ليس إلا نتاجاً لشخصية الفرد, وهذا ما دعاه لأن يرسم في كل ما كتب صورة أخلاقية ونفسية وأدبية للأدباء الذين درسهم أكثر مما سعى لتقديم دراسات قيمية بحق أدبهم. أما هيبولت تين(1828-1893) كان يلتقي مع بيف في الرؤية العامة, بيد أن تين) أكثر انبهاراً بقوانين العلوم الطبيعية. كان يرى أن الإنسان ينتج الأدب والأشعار والفلسفات بطريقة طبيعية تشبه تماماً إفراز دودة القز خيوط الحرير. ويعتقد تين) أن الأديب الذي يعيش داخل إطار منظومة القوانين الطبيعية لابد أن يخضع لها, وينتج ويبدع في سياقها المعرفي والتاريخي. ولذا رأى أن ثمة ثلاثة عوامل تؤثر في إنتاج الأديب وهي:
1- الجنس,مجموعة الصفات الوراثية المشتركة بين أفراد الأمة الواحدة المنحدرة من جنس معين.
2 - البيئة ، أو المكان أو الوسط ، بمعنى الفضاء الجغرافي وانعكاساته الاجتماعية في النص الأدبي.
3 - العصر أي مجموع الظروف السياسية والثقافية والدينية التي من شأنها أن تمارس تأثيرا على النص.
ولعل أبرز مايمكن أن يوجه من نقد لهذا التصور, هو إنكاره أهمية الفرادة واللجوء إلى تعميم التصور القائم على أهمية الزمان والمكان والجنس.(3)
ولقد دعا "سانت بوف" في ظل منهجية نقده إلى" دراسة الأدباء دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم, وأممهم, وعصورهم, وآبائهم وامهاتهم, وأسرهم, وتربيتهم, وخواصهم النفسية والعقلية, وعلاقاتهم بأصدقائهم, ومعارفهم, والتعرف على كل مايتصل بهم من عادات وأفكار, ووظيفة النقد الأدبي عنده: هي النفاذ إلى ذات المؤلف لتشف روحه من وراء عباءته بحيث يفهمه قراؤه, وهو بذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب.(4)

في النقد العربي الحديث:
تجلى هذا الاتجاه لدى عدد من النقاد أمثال ( عباس العقاد) و ( طه حسين ).الذي درس أثر الترف في العصر الأموي وأثر رغد العيش الذي تحقق لعدد من الأسر الحجازية مما انتج نوعا من الغزل اللاهي المترف.(1)
وزكي مبارك (1893-1952) ، وأحمد أمين (1886-1954)
على أن محمد مندور (1907-1965) يمكن عده الجسر "التاريخي" المباشر بين النقدين الفرنسي والعربي؛ فهو أول من أرسى معالم "اللانسونية" في نقدنا العربي ، حين أصدر كتابه (النقد المنهجي عند العرب) مذيلا بترجمته لمقالة لانسون الشهيرة (منهج البحث في الأدب) ، وكان ذلك في حدود سنة 1946 ، ثم أعاد طبع هذه الترجمة (مرفقة بترجمته لمقالة ماييه "منهج البحث في اللغة") سنة 1964.
ومنذ الستينيات ، أخذ النقد التاريخي يزدهر في كثير من الجامعات العربية على أيدي أشهر الأكاديميين العرب الذين تحولت أطروحاتهم الجامعية إلى معالم نقدية يقتفي آثارها المنهجية (التاريخية) طلبتهم ، ويتوارثونها طالبا عن أستاذ ، حتى ترسخ المنهج التاريخي ورسم ترسيما أكاديميا (يوشك أن يبدو مطلقا !) ، وأصبح من المجازفة الأكاديمية أن يفكر الباحث الجامعي في بديل لهذا المنهج.
ومن رموز هذا المنهج : شوقي ضيف وسهير القلماوي وعمر الدسوقي في مصر ، وشكري فيصل في سوريا ، ومحمد الصالح الجابري في تونس ، وعباس الجراري في المغرب ، أما في الجزائر فيمكن أن نذكر : بلقاسم سعد الله وصالح خرفي وعبد الله ركيبي ومحمد ناصر وعبد الملك مرتاض (في مرحلة أولى من تجربته النقدية)
وعموما فإن النقد التاريخي قد اتّسم بالخصائص الآتية :
- الازدهار في أحضان البحوث الأكاديمية المتخصصة التي بالغت في ارتضائه منهجا واحدا لا يرتضى بدلا.
- الربط الآلي بين النص الأدبي ومحيطه السياقي ، واعتبار الأول وثيقة للثاني.
- الاهتمام بدراسة المدونات الأدبية العريضة الممتدة تاريخيا ، مع التركيز على أكثر النصوص تمثيلا للمرحلة التاريخية المدروسة (وإن كانت ثانوية وضعيفة فنيا ، لأن في مرآويتها واستجابتها للمؤثرات التاريخية مندوحة عن أي شيء آخر!) ، مع إهمال التفاوت الكبير بين أدباء يتحدون في الزمان والمكان؛ كأن هذا المنهج عاجز – بطبعه – عن تفسير الفوارق العبقرية بين المبدعين المنتمين إلى فضاء زمكاني موحد.- المبالغة في التعميم ، والاستقراء الناقص
- الاهتمام بالمبدع والبيئة الإبداعية على حساب النص الإبداعي ، وتحويل كثير من النصوص إلى وثائق يستعان بها عند الحاجة إلى تأكيد بعض الأفكار والحقائق التاريخية.
- التركيز على المضمون وسياقاته الخارجية ، مع تغييب واضح للخصوصية الأدبية للنص.
- التعامل مع النصوص المدروسة على أنها مخطوطات بحاجة إلى توثيق ، أو تحف مجهولة في متحف أثري ، مع محاولة لم شتاتها وتأكيدها بالوثائق والصور والفهارس والملاحق.
وهكذا تبدو الأهمية الأساسية لهذا المنهج في أنه يقدم جهودا مضنية في سبيل تقديم المادة الأدبية الخام ، أما دراسة هذه المادة في ذاتها فإنها أوسع من أن يستوعبها مثل هذا القالب المنهجي الضيق.!(5)
فقد حظي المنهج التاريخي مثله مثل كل المناهج بمجموعة من المؤيدين وأخرى من الرافضين وثالثة من المتوسطين في قبوله ورفضه.
المؤيدين: يرون فيه منهجاً محاكياً لقوانين العلم وآلياته وبخاصة في مجال الدراسة العلمية الأكاديمية التي تخضع للدراسة والفحص والملاحظة.
أما الرافضون: فينطلقون من الاعتراف بأن الخطاب الأدبي ماهو إلا بنية لغوية وعلاقات تشكيلية وجمالية ورؤية مجازية لايجوز مقاربتها من خارج سياقها أو تقويمها بعيداً عن أثرها الجمالي والفني.
أما المتوسطون: فيعترفون بما للمنهج التاريخي من دور مهم في فهم الظواهر الأدبية وتفسيرها, ولكنهم يرون محدودية المنهج باقتصاره على تشكيل خصائص اتجاه أدبي في جيل أو أمة, كما يفيد في فهم بواعث نشوء ظاهرة أدبية أو تيار فكري معين مرتبط بالمجتمع.