التاريخ والتأريخ للتوجيه والإرشاد على المستوى العالمي


الإرشاد النفسي أحد الخدمات النفسية التي تقدم للأفراد والجماعات بهدف تجاوز الصعوبات التي تعترض الفرد أو الجماعة،وتعوق توافقهم وإنتاجيتهم.

وهو خدمة نفسية توجه إلى الفرد والجماعات الذين مازالوا قائمين فى المجال السوي،ولم يتحولوا بعد إلى المجال غير السوي.

ولكنهم مع ذلك يواجهون مشكلات ذات طبيعة انفعالية شديدة،وتتصف بدرجة من التعقيد والشدة،بحيث يعجزون عن مواجهة هذه الصعوبات والمشكلات بدون عون أو مساعدة من الخارج.

(*)والإرشاد النفسي يتركز على الفرد ذاته أو الجماعة ذاتها بهدف إحداث التغيير فى النظرة وفى التفكير وفى المشاعر والاتجاهات نحو المشكلة ونحو الموضوعات الأخرى التي ترتبط بها،ونحو العالم المحيط بالفرد أو الجماعة.

وعلى هذا الأساس فأن العملية الإرشادية هدفها توفير الاستبصار للفرد والجماعة فى حال الإرشاد الجماعي،الذي يمكنه من زيادة تحكمه فى انفعالاته وزيادة معرفته بذاته وبالبيئة المحيطة به.

ولأن العملية الإرشادية تقوم على ازدياد الاستبصار لدى الفرد فأنها تؤكد بذلك عملية التعلم من حيث اهتمامها بتعديل أفكار الأفراد ومشاعرهم وسلوكهم نحو ذاتهم ونحو الآخرين،ونحو العالم الذي يعيشون فيه.

ونستطيع القول أن الفرد أو الجماعة الذي يمر بخبرة إرشاد نفسي ناجحة فأنه يمر بخبرة نمو وارتقاء نفسي فى نفس الوقت.



التطور التاريخي:

نشأ الإرشاد النفسي فى أحضان حركة التوجيه المهني والتربية المهنية،وعلى الأصح فقد نشأ من التقاء هذه الحركة مع تيارات وحركات أخرى ممثلة فى العلاج النفسي والخدمة النفسية.

ولذا فأنه من المناسب أن نشير إلى العلاقة أو الفرق بين خدمات الإرشاد النفسي،وخدمات التوجيه المهني والتربوي.

وتنصب خدمات التوجيه المهني والتربوي على مساعدة الفرد على دراسة المشكلة التي تواجهه سواء كانت تربوية، كاختيار نوع الدراسة المناسبة، أو التغلب على صعوبة فى تحصيل مادة دراسية، أو مشكلة تتعلق بالأداء فى الامتحانات أو مشكلة مهنية كاختيار العمل المناسب أو المهنة المناسبة، والمساعدة هنا تتمثل فى مساعدة الفرد على تحليل عناصر المشكلة وتوفير المعلومات التي تتصل بها المعلومات الخاصة بوضع المهنة أو العمل فى المجتمع، كما توفر خدمة التوجيه التربوي المعلومات الخاصة بقدرات الفرد واستعداداته وميوله،وتنظيم هذه المعلومات كلها معا والخروج من ذلك بحلول أو توجهات .

وعلى الفرد أن يختار منها الحل الذي يراه مناسبا لظروفه،أي أن اهتمام التوجيه التربوي والمهني ينصب على المشكلة وليس على الفرد، والمشكلة هنا فى التوجيه التربوي والمهني ليس لها صبغة انفعالية حادة.

وما ينقص الفرد هنا هو قلة المعلومات والمعرفة والنضج بالدرجة الأولى،بعكس ما هو قائم فى خدمات الإرشاد النفسي الذي تنصب جهوده على الفرد وليس على المشكلة، باعتبار أن الفرد فى حاجة إلى تغيير فى اتجاهاته وقيمه ومشاعره وأساليب تفكيره.

فالمشكلة فى الإرشاد النفسي تتمثل فى الفرد ذاته ،أما فى التوجيه التربوي والمهني فالمشكلة خارج الفرد وتتمثل فيما يواجهه من المواقف وعليه أن يختار ما يناسبه من بدائل متاحة، ومع التطورات الاقتصادية والاجتماعية فى بداية القرن العشرين وتعقد الآلة الصناعية، تعددت المهن وكثرت ولم يعد من السهل اختيار المهنة فضلا عن النجاح فيها.

وقد أوجب ذلك ضرورة ظهور الخدمة الإرشادية فى مجال اختيار المهنة وزادت أهمية هذه الخدمة،وأصبحت كما عبر عن ذلك "نورس"Norris "ضرورة للحفاظ على المجتمع نفسه" . 1924 Norris

وفى ظل التطورات الاقتصادية التي شهدتها أوربا والولايات المتحدة وما ترتب على ذلك من ردود أفعال اجتماعية وإنسانية على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي والتربوي، والتي اتخذت معا فيما أطلق عليه "روكول Rockwell الكاليدوسكوب "*"Kaleidoscope والذي نسميه اليوم الإرشاد النفسي Counseling " Rockwell 1990,11.

وكان المناخ معبأ بضرورة ظهور الخدمات التي تواجه الآثار والندوب التي تركتها الثورة الصناعية الثانية على الصعيدين الإنساني والاجتماعي، وتهيئ الجو أيضا للاقتناع بضرورة دراسة المشكلات الاجتماعية دراسة علمية شأنها فى ذلك شأن المشكلات الفيزيقية.

وقد ساعد التوجه الخاص بإخضاع المشكلات الإنسانية والاجتماعية للدراسة العلمية على تدعيم خدمات الإرشاد النفسي، وكان "لايتر ويتمر"Lighter Witmer قد افتتح العيادة النفسية الأولى فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1896، وأنشأ تخصص علم النفس الإكلينيكي، وباتت الأذهان متقبلة للخدمة النفسية ومقتنعة بها ،حتى أن "كليفورد بيرس Clifford Beers أثار ضجة كبرى عندما نشر مذكراته التي تمثل خبرته مع المرض النفسي فى كتابه " العقل الذي وجد نفسه" عام 1908وقد وصف فى الكتاب المعاملة السيئة والخشنة والعلاج غير الكفء الذي يلقاه المرضى فى مستشفيات الأمراض النفسية،وقد كان الكتاب بمثابة الشرارة الأولى لتطور حركة الصحة النفسية، والتي أثارت العديد من الدراسات حول الأشخاص الذين لديهم مشكلات سلوكية،وكانت هذه بداية إرشاد الصحة النفسية Mental Health Counseling.

وقد أظهرت نتائج الدراسات التي أجريت على الأطفال من ذوى المشكلات ضرورة توفير خدمات الإرشاد النفسي لكل الأطفال فى المدارس، وقد تطور إرشاد الصحة النفسية وأصبح جزءا أساسيا من المجرى الأساسي لمهنة الإرشاد النفسي، ولقد كان تأثير الحرب العالمية الأولى "1914-1918"،وكذلك الحرب العالمية الثانية "1939-1945"وما حدث بينهما من أزمات اقتصادية وتدخل حكومي تأثير هائل فى تطورا لخدمات النفسية وعلى رأسها الإرشاد النفسي، خاصة فى مجال إعداد الأدوات وكيفية استخدامها، فقد كان على الجيوش المحاربة أن تواجه الآلاف من الشباب الذي طلب أداء الخدمة العسكرية ،وفرز الصالح منهم وغير الصالح لأداء الخدمة،ثم توزيعهم على الأعمال والمهام المختلفة.

وبذلك فإنه فى ظل المجهود الحربي وتعبئة طاقات الدول المحاربة لكسب الحرب طورت أدوات ما كان من الممكن إعدادها فى هذا الوقت القصير وتقنينها على تلك الأعداد الضخمة لولا ظروف الحرب العالمية، وبذلك تم إعداد مقياس "ألفا" (Alpha ) ومقياس "بيتا" (Beta) للذكاء فى الجيش الأمريكي، وفى الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى تكاثر العديد المتنوع من هذه الأدوات،حتى أن المرشدين النفسيين لم يكونوا هم المنشئون الأساسيين لهذه الأدوات ،بل إنهم كانوا من مستخدميها فقط.

وقد كان تكميم ذكاء الشخص وميله واستعداداته وتحصيله ومختلف جوانب شخصيته وقياس هذه الجوانب قياسا أقرب إلى الدقة الكمية أساس طيب لصدق أحكام المرشدين النفسيين على مفحوصيهم، ولذلك فليس من المستغرب أن التوجيه المهني والإرشاد النفسي أصبحا ملتصقين من البداية بحركة القياس النفسي.

وأصبح القياس النفسي موجودا بشكل كلى وأساس فى تصنيف العاملين فى مجال الصناعة ،وفى المجال التربوي، وفى مكاتب الإرشاد النفسي، وأصبحت معرفة هذه المقاييس وإتقان استخدامها والاستفادة منها جزءا أساسيا من تعليم وتدريب المرشدين النفسيين .

ولقد صيغت نظرية توجيهية فى الإرشاد النفسي كان من أوائل الداعين لها "وليامسون1939"(Williamson) وكما كان للحرب العالمية الأولى فضل فى تطوير بعض الأدوات وكذلك فى الحرب العالمية الثانية طور الجيش الأمريكي فى هذه المرة "اختبار التصنيف العام للجيش The Army General Classification Test "A.G.C.T".

ومما لاشك فيه أن "كارل روجرز" Carl Rogersيعتبر أحد المعالم البارزة فى مسيرة الإرشاد النفسي، وقد أثر روجرز بأفكاره ونظامه وممارسته فى الإرشاد تأثيرا لا ينكر.

وفكرة روجرز الأساسية والتي أتى بها إلى المجال وأكدها ووجدت أنصار كثيرين لها هي أن الأفراد لديهم القدرة على اكتشاف ذواتهم ،وعلى وضع قراراتهم بدون أحكام سلطوية من المرشد، ومن تأثيرات روجرز أنه أدخل التسجيلات الصوتية والمرئية إلى جلسات الإرشاد،الأمر الذي لم يكن معروفا من قبل ،وقد نشر روجرز أفكاره الأساسية فى كتابيه " الإرشاد والعلاج النفسي :مفاهيم أحدث فى الممارسة1942، والعلاج المتمركز حول العميل عام 1951.

ولم يكن روجرز يرى ضرورة لتشخيص مشكلات العملاء ،أو أن يزودهم المرشد بمعلومات أو توجيهات معينة، فقد أكد على أهمية العلاقة بين المرشد والعميل ،وفى مفهومه يكون العميل أكثر أهمية من المرشد، وبهذا أصبح نظام روجرز يعرف " بالإرشاد النفسي غير المباشر أو غير الموجه Nondirective Counseling.

ومما لاشك فيه أن هذا المدخل قد أثر على مسيرة الإرشاد النفسي كعملية وكمهنة تأثيرا عميقا نجد آثاره إلى اليوم، وقد تخطت أفكار روجرز ميدان الإرشاد النفسي " الخاص "إلى مجال" العلاقات الإنسانية" فى مجال التعلم ،ومجال الأسرة، والعلاقات بين الزوجين، وكذلك فى مجال العمل بين أصحاب العمل والعمال فيما يعرف الآن بعلاج العلاقات Relation Therapy .

وقد كانت الخمسينات والستينات من هذا القرن مسرح للجدال بين البرامج الإرشادية المعتمدة على نظرية روجرز المتمركزة حول العميل Client Centeredفى مقابل البرامج الإرشادية المعتمدة على نظرية العوامل والسمات Trait Factored.



ومع إطلالة الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين، ربما كان التنبؤ بما سيكون عليه الإرشاد النفسي فى القرن القادم أحد الأعمال الصعبة نسبياً، لأن القرن القادم أصبح وشيكاً وعلى الأبواب، حتى أن مقدماته أصبحت جزءا من الحاضر.

بل أننا قد أصبحنا نعيش فى القرن الحادي والعشرين بمتغيراته،ومن المعروف أن الذين يحاولون التنبؤ ويعلنون تنبؤاتهم يغامرون بأن يقعوا فى الخطأ، لأنه من السهل بالطبع أن نتحدث عما حدث قياسا إلى التحدث عما سوف يحدث فى ظل تغيرات متلاحقة فى جوانب عديدة كل منها يؤثر على الآخر.

ويعيش العلماء والمفكرين كذلك أزمة التنبؤ وصعوبتها وعدم دقته ،حيث أن التنبؤ يصف المجهول وغير متأكد منه، والأمر المثير فيما يتعلق عن مستقبل الإرشاد النفسي أن عملية الإرشاد نفسها تتضمن قدراً كبيرا من التعامل فى المستقبل للعميل والتخطيط لمستقبله المهني، وهو ما يتطلب تنبؤا لكثير من الجوانب فى حياة العميل وللعوامل التي تؤثر فيها.

ومما لاشك فيه أننا حين نمد عملية التنبؤ من مستوى الفرد كما يحدث فى عملية الإرشاد الفردي إلى مستوى الجماعة ،فأن ذلك كله يتطلب المزيد من البيانات والمعلومات الدقيقة، ولم تكن تكهنات وتنبؤات الكتاب والمبدعين فى تقدير التغير الذي يحدث فى الألفية الثالثة تغير متأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية، ويقللون من العوامل التكنولوجية.

ولكن مع هذا التكتل الجماعي الدولي الجديد وانفتاح العالم وفى ظل العولمة وأصبح العالم قرية صغيرة من خلال شبكات الستالايت المختلفة وانتقال العادات الاجتماعية من مجتمع لآخر فى أقل من الفمتوثانية، وانتشار الضغوط الاجتماعية على الفرد والجماعة فى محيط الكرة الأرضية وانتشار ثورة الكمبيوتر أصبح الإرشاد النفسي سلعة مطلوبة على شاشات الإنترنت وأصبحنا نحن كمعالجين نفسيين نجد فى عياداتنا كثيرا من الأفراد الطالبون للمزيد من الاستشارات النفسية والعلاج النفسي.