الألسنية المعلوماتية:
تطوير اللغة في عصر التقنيات الحديثة


غسان مراد

جريدة السفير (لبنان)

الثلاثاء، 8 حزيران «يونيو» 2004




الألسنية المعلوماتية أو المعلوماتية اللغوية هي علم متخصص في دراسة ومعالجة اللغات بشكل تطبيقي لخلق برامج وأنظمة معلوماتية “ذكية” يكون دورها مساعدة مستخدم الحاسوب (بحاثة، إعلاميين، مترجمين، طلاب، إلخ...) على حل بعض الأمور المتعلقة باللغة وبالمعلومات الرقمية بشكل عام كالترجمة الآلية، والتفتيش الذكي عن المعلومات، والخلاصة الآلية وكل ما يختص بالكلام المنطوق والمكتوب حتى أنها من الممكن أن تساهم في المساعدة على تحسين وتطوير اللغات للمعاقين بصريا، وسمعيا ونُطقاً... وقد وجد هذا العلم الجديد طريقه الى الجامعات اللبنانية من خلال ادخاله من ضمن اختصاصات فرع اللغة والتواصل في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية.


البداية عسكرية
تأسس هذا العلم أو الاختصاص في الخمسينيات، فعندما اخترع الحاسوب بدأ السياسيون والعسكريون ورجال المخابرات يفكرون بكيفية الاستفادة من هذه الآلة في مجال الترجمة الآلية. وكان الاعتقاد السائد أن الأمر سهّل من قبل المعلوماتيين في ذلك الوقت فبدأت الترجمة الآلية كلمة كلمة عبر استعمال القواميس الآلية.

لكن، وبعد فترة وجيزة، تبيّن أن الترجمة الآلية أصعب من ذلك، لا سيما وأن التقارير التي قُدمت لم تكن تبشر بالخير وخاصة بعد أن كانت المخابرات الأميركية (CIA) قد دفعت مبالغ هائلة للحصول على مترجم آلي يترجم الرسائل المشفرة (Crypté) باللغة الروسية. وتبيّن بعد ذلك فشل أولى أنظمة الترجمة، ذلك أن الترجمة الآلية والتحليل الآلي للغة لا يصبح فعليا وفعالا إلا بدراسة لغوية وألسنية معمقة.

وفي الثمانينيات بدأ يزيد الاهتمام الحكومي الدولي (أميركا، أوروبا، اليابان)، واهتمام الشركات الخاصة بهذا الموضوع، بعدما ظهرت أهمية هذا العمل استراتيجيا واقتصاديا إن كان من ناحية المراقبة العسكرية (التجسس) أو من ناحية المراقبة الصناعية ناهيك عن ترقيم الوثائق والتفتيش الوثائقي، إلخ. ولم يتوقف الاهتمام بهذا العمل على الترجمة الآلية ولكن بدأت معالجة كل ما يتعلق باللغة.

أما بالنسبة للغويين وعلماء الألسنية فقد بدأوا بالتفكير بكيفية ترميز (Symbole) اللغة شكلاً باعتمادهم على علوم الرياضيات والمنطق الرياضي الذي وُضعت أسسه مع بوول (Boole) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن أهم الأعمال التي طورت وساهمت في مجال معالجة اللغة أعمال الألسني شومسكي (Chomsky) الذي وضع أسس الكتابة الشكلية للنحو.


لغة وسيطة
وانطلاقاً من الأعمال النظرية الألسنية لم تعد الترجمة الآلية تحصل مباشرة من لغة الى أخرى بل عبر المرور بلغة وسيطة تجديدية بين اللغة الأصل واللغة الهدف (Langue Source - Langue Cible).

أما من ناحية المعالجة الآلية بشكل عام نتكلم اليوم أكثر عما يسمى هندسة اللغة (Ingenierie Linguistique) والتي تطمح الى حل بعض الأمور الأكثر واقعية وقابلة للتطبيق مثل الخلاصة الآلية واستخلاص المعلومات والتحليل الآلي للنصوص وما الى ذلك من أنظمة لمساعدة مستهلك المعلومات. ويعود السبب طبعا الى وجود شبكات المعلومات (أنترنت وانترانت) والحواسب الشخصية التي غمرتنا بالمعلومات مما أدى الى اللجوء الى التفتيش عن حلول لإيصال المعلومة المطلوبة لكل شخص بحسب اهتماماته.

ويمكن لطريقة العمل المنهجية نفسها أن تؤدي الى بناء الخلاصة الآلية وليس الخلاصة التي تعودنا أن نحررها في المدارس. أي الخلاصة المبنية على الجمل المهمة في نص معين والمأخوذة مباشرة من النص عبر التفتيش عن المؤشرات اللغوية المهمة.

فخلال التفتيش عن المعلومات عبر الأنترنت نجد دائما كل ما لا نحتاجه!! لذلك تساعد المعلوماتية اللغوية في إحدى تطبيقاتها على الحصول على المعلومات المبتغاة في الوقت المطلوب. ويتطلب العمل في ذلك زيادة المعرفة في الرياضيات والمنطق وعلم النفس اللغوي والاجتماعي والذكاء الاصطناعي... ومعرفة فعالة للألسنية “الحديثة” وللمعلوماتية المطبقة على العلوم الإنسانية. فقد أدخلت المعلوماتية مفاهيم جديدة على الألسنية.


اللغة كأرقام
ومن المهم أن يوازي علم الألسنية الحديثة التطور التكنولوجي من دراسة الكلمات والجمل البسيطة الى دراسة الجمل المعقدة ثم النص بشكل عام كوحدة متكاملة مع كل ما يحتويه من مفردات وما يحيط بها (صور، فهارس، إلخ...) وكل ما يتعلق بشكل الكلمات وعلامات الترقيم ومكان الجمل في النص. زيادة على ذلك يجب دراسة النص كنص رقمي موجود على الحاسوب (نص آلي) ومتحرك وليس فقط كنص مطبوع، فالكتابة على الحاسوب ليست كما هي على الورق وكذلك القراء. فقد غيّر الحاسوب في طرق الانتاج للنصوص (الكتابة) مثلما غيّر في طرق التلقي والفهم وادخلت المعلوماتية مفاهيم جديدة على الألسنة فإذا سلمنا جدلا ان الألسنية هي علم مراقبة اللغات والمعلوماتية هي فعالية علمية (effectivité) فالثانية تتطلب من الاولى ان تكون “شغاله” (opératoire) وعلى الثانية ان تكون عملانية (opérationnelle)، ففي المعلوماتية اللغوية تستثمر الخصائص النظرية للألسنية وفعالية المعلوماتية، طبعا الألسني المعلوماتي يطمح الى تشكيل وبرمجة كل ما هو مراقب، ولكن طبيعة اللغة لا تسمح لنا بأن نتكلم عن “كل” مع او بدون معلوماتية. فصعوبة معالجة اللغة آليا متعلقة بغنى اللغة الطبيعية صرفا، نحوا ودلالة. ومن اهم مشاكل معالجة اللغات ظاهرة الالتباس والمعاني المتعددة لذلك فالدراسة في الألسنية المعلوماتية متعددة الاختصاصات (Pluridisciplinaire)، وتعليم هذا الاختصاص يتركز على أسس تاريخية وتكنولوجية.


اختصاص جديد في الجامعة اللبنانية
في البدء كان العاملون في هذا المجال “هواة” في البرمجة واكثرهم اتى من اختصاصات المعلوماتية والرياضيات، ولكن الحاجة الماسة لمعالجة اللغة والمفاهيم اللازمة دفعت الى التفتيش عن متخصصين في هذا المجال والى خلق بنيه تحتية عاملة فيه فأدرجت هذه المادة كمادة اختصاص في الجامعات. ففي فرنسا مثلاً تُدرس حتى الآن الألسنية المعلوماتية في الاجازة والجدارة والدبلوم فقط وهي حتى الآن ليست اختصاصا قائما بذاته. ولكن هناك بعض التجارب للبدء بتعليمها في الجامعات مباشرة بعد البكالوريا ففي السوربون مثلا بدأنا في قسم “الرياضيات التطبيقية على العلوم الانسانية”. من فترة سنتين التأهيل لهذا الاختصاص في السنين الجامعية الاولى. واسم هذا الاختصاص “اللغة والمعلوماتية”.

طبعا امكانية التعليم ممكنة في الجامعات العربية، والبنية التحتية تبنى، يكفي الارادة. ففي الجامعة اللبنانية وبالتحديد في كلية الآداب ادخل هذه السنة برنامج متكامل نسبيا في فرع اللغة والتواصل لتعليم هذا الاختصاص، فهذا القسم المبني على تعليم اللغات والألسنية وعلى تأهيل الطلاب في مجال علوم التواصل بدأ بأدخال هذه المادة بطابعها المعرفي التقني ان كان من ناحية وسائل التعليم الحديثة او من ناحية ايجاد وسائل تعليم تكنولوجية حديثة ووسائل معالجة اللغة بشكل متطور مروراً طبعا بتقنيات التكنولوجية الحديثة للمعلومات والتواصل. سيؤمن ذلك للطلاب فرص عمل، ان كان لجهة الابحاث المتعلقة بعلوم اللغة، او لجهة العمل على خلق القواميس الآلية، او لجهة ترقيم الوثائق التي نحن بأمسّ الحاجة اليها في لبنان

ويعتمد تعليم هذا الاختصاص على تحليل مدونات باللغتين الفرنسية والعربية كمواد للمعالجة وان كان للفرنسيين حاليا الحصة الاكبر. وسيتطور العمل على المعالجة الآلية للغة العربية تدريجيا، اذ من الممكن طبعا تطبيق هذا العلم على العربية، فيكفي ان تكون اللغة مرقمة، إذ يعتمد هذا العلم منهجية خاصة به، من الممكن تطبيقها على اللغة العربية ولكن بأخذ بعين الاعتبار خصائص اللغة، فلكل لغة خواص ومشاكل متعلقة بها. والمشاكل الموجودة في اللغة العربية غير موجودة في اللغات الاخرى والعكس صحيح.

اما لجهة الجامعات العربية فهناك عدة جامعات تدرس مادة الألسنية المعلوماتية ولكن ليس كمادة اكاديمية في السنين الاولى الجامعية وفي كليات العلوم الانسانية ولكن في سنين الاختصاص وفي الكليات العلمية. كما تقوم شركات بمعالجة اللغة العربية ولها مراكز على الانترنت.

بالنسبة للجامعات الغربية تعمل مختبرات عدة على معالجة اللغة العربية، فمثلا في السوربون نعمل مع بعض البحاثة على برنامج للخلاصة الآلية للعربية وقد عرضنا في نيسان في مدينة فاس المغربية ضمن مؤتمر “معالجة اللغة العربية” اول تطبيق نموذجي (Prototype) عن كيفية حصولنا آليا على المعلومات لبناء خلاصة آلية.


* د. غسان مراد، باحث ومحاضر في جامعة السوربون واستاذ الألسنية المعلوماتية في الجامعة اللبنانية.