تعدّ العولمة اليوم بأبعادها المختلفة والمتداخلة ظاهرة غير مسبوقة أثّرت في مختلف جوانب الحياة، ومنها التعليم. وعلى الرغم من أن عوامل كثيرة ومتداخلة أسهمت في نشوء العولمة إلا أن الانقلاب التصوري paradigm shiftالذي أنتجه تيار ما بعد الحداثة يعدّ عاملاً رئيساً في نشوئها. بحيث يمكن القول بأن العولمة ظاهرة ما بعد حداثية (Petrov. 2003، وطفة، 2007).

وقد ظهرت العولمة بصور شتى متداخلة ومنفصلة أحياناً، حيث يذكر سكلير (Sklair, 1999) توجهات أربعة للعولمة، منها العولمة الثقافية. وهي التي تعطي الأولوية للبعد الثقافي لدى الأمم. ومع أن العولمة الاقتصادية والتقنية أسهمت في نشوء العولمة الثقافية، إلا أن توجه ما بعد الحداثة وما يحمله من انقلاب تصوري ينزع نحو التعددية وقبول التنوّع يعدّ عاملاً مهماً في تشكل الوجه التربوي للعولمة.

وما بعد الحداثة postmodernismتيار فكري نشأ في الأصل وفي كثير من جوانبه ردة فعل لـ "الحداثة". وقد اشتمل على طيف من التيارات الفكرية التي تلتقي عند القطيعة مع الحداثة ورفض السرديات الكبرى meta-narratives. وكسلفه، تيار الحداثة، كان لتيار ما بعد الحداثة أثر كبير وعميق على جوانب فكرية وعملية كثيرة في الحياة، ومنها الجانب التربوي. وقد كان لهذا التيار حضور جارف في المؤسسات التربوية وطبع كثير من عناصر العلمية التربوية بطابعه، بحيث شهد الميدان التربوي في العقدين الأخيرين تحولات كبرى وربما انقلابات في التصور paradigm shiftفي كثير من المفاهيم، مما يستدعي دراسة هذا التيار واستكشاف جوانب تأثيره على عنصر مهم من عناصر العملية التعليمية، وهو المنهج الدراسي.



مشكلة الدراسة

تعرض المنهج لتغيرات كبيرة على مرّ العصور، متأثراً في ذلك بالفكر التربوي الذي يكتنفه. وقد سيطرت النظرة الحداثية على بناء المناهج في القرن العشرين الميلادي، وكان لها أثر عميق في كثير من جوانبه. إلى أن ظهر تيار مابعد الحداثة فقام بالتصدي لكثير من المسلمات الحداثية ومحاولة نقضها، فكان له أثر كبير في مفهوم المنهج وبنائه.

وعلى الرغم من النقد الكثير الذي وجهته التيارات ما بعد الحداثية للحداثة في مجال التعليم، إلا أنها لم تطرح فلسفة تربوية شاملة إلى الآن (Chambliss, 1996, 403). فأثر ما بعد الحداثة في التعليم كبير، من ناحية استهدافه للأسس التي قام عليها تيار الحداثة، وإن كان غير واضح المعالم(Doll, 1993, p. 3)، لأن أنصاره ينقدون أكثر ممّا ينشئون. وبعبارة أخرى، كما يقول أحد الباحثين، إن أنصار ما بعد الحداثة (Ozmon & Craver, 1999, p. 371) يشعرون بما يرفضون أكثر من شعورهم بما يقدمون. More conscious of what they oppose than what they promote""

ومشكلة هذا البحث هي التعرف إلى التغيرات التي أحدثها تيار مابعد الحداثة في مفهوم المنهج الدراسي ومكوناته وتطبيقه. وكيف قاد هذا التغيير إلى عولمة التربية أو المتعلم العولمي.

سوف تحاول هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة التالية:

1. ما مفهوم مابعد الحداثة، وما جذورها؟

2. ما خصائص ما بعد الحداثة؟

3. ما نظرية المنهج التي يتبناها توجه ما بعد الحداثة، وما آثارها على مكوناته؟

4. كيف أدّت المفاهيم ما بعد الحداثية إلى تشكّل صورة المتعلم العولمي؟



أهمية الدراسة

تكمن أهمية الدراسة من ناحية كونها تبحث توجهاً فكرياً عاماً له أثره في كثير من جوانب الحياة بما فيها التربية، ويعد الآن عاملاً مؤثراً في فلسفة التربية بشكل عام ونظرية المنهج بشكل خاص. كما تفيد أيضاً في تزويد التربويين برؤية جديدة للمنهج الدراسي، وكيف يتفاعل مع متطلبات العولمة.



منهج الدراسة

لأن موضوع ما بعد الحداثة وتأثيره على المنهج موضوع فلسفي نظري، على الأقل على المستوى الذي تقع فيه هذه الدراسة، سلكت هذه الدراسة المنهج الوصفي التحليلي النظري، وذلك من خلال تتبع وتحليل ما كتب عن ما بعد الحداثة والمنهج، سواء من أنصاره أو من خصومه، والمقارنة بينه والخلوص بنتائج من ذلك.



النتائـج

الإجابة عن سؤال الدراسة الأول:

1. ما مفهوم مابعد الحداثة وما جذورها؟

سوف تكون الإجابة عن هذا السؤال في ثلاث نقاط: مفهوم ما بعد الحداثة، جذور ما بعد الحداثة، أسباب ظهور ما بعد الحداثة.

مفهوم ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة من التنوّع والتدرج بحيث يصعب إيجاد تعريف دقيق لها (Nicholson, 1989, Bloland, 2005). وتكاد تجمع المراجع على عدم إعطاء تعريف لـ "ما بعد الحداثة" لصعوبة تعريفها (Ward, 1997, Ornstein & Hunkins, 2004)، وبدلاً من ذلك تقوم بتوصيف هذا المذهب، وذلك بمقارنته بنقيضة "الحداثة". فلكي يتضح مفهوم ما بعد الحداثة لا بدّ من مقارنته بمفهوم الحداثة.

والسبب في ذلك أن ما بعد الحداثة مفهوم فضفاض وغامض (الشيخ والطايري، 1996)، فهناك صور متعدّدة من ما بعد الحداثة. فهي تتدرج من الموقف الرافض للغلو العقلاني الوضعي ورفض الاضطهاد الذي تمارسه الثقافة الغربية بأيديولوجيتها العلمية إلى أن تصل إلى ما بعد الحداثة المتطرفة الثورية العبثية التي تدعو للثورة على العقل والعقلانية من أساسهما وتصل إلى التشكيك حتى في البدهيات. مما حدا بأنصارها إلى الكفّ عن توضيح ما هي "مابعد الحداثة" والانصراف بدلاً من ذلك إلى توضيح ما ترفضه ما بعد الحداثة (Doll, 1993, p4).

ولكن باختصار يمكن أن تعرف "ما بعد الحداثة" بأنها اتجاه فكري، يضم تدرجاً من التيارات، يجمعها رفض الأسس الأنطولوجية (أي الخاصة بطبيعة الوجود) والمعرفية والمنهجية التي قامت عليها الحداثة أو على الأقل يجعلها محل شك.



جذور ما بعد الحداثة

ظهر مفهوم ما بعد الحداثة بشكل واضح في السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، في كتاب الفيلسوف الفرنسي ليوتارد، (علم ما بعد الحداثة) وعنى بها التعددية الثقافية وتعدد أنماط الحياة (العمري والعرابي، 1422).

ويرجع كثير من الباحثين أصول "ما بعد الحداثة" الأولية إلى الفيلسوف الألماني نيتشه (Tamas, 1991)، الذي نادى بموت الإله، بمعنى موت الاعتقاد بالإله(Lavin,1989). وأنكر أن يكون ما لدينا من معلومات صحيحاً، بل أنكر أن يكون هناك طريقة للوصول للحقيقة أصلاً. فهو لا يشكك في ما لدينا من وسائل للمعرفة بل ينكر أن يكون هناك إمكانية للوصول لحقائق الأمور بتاتاً. وقد حمل نيتشه على (المطلق) ونادى بأن كلّ العلوم إنما هي اعتقادات ونظرات خاصة ينشؤها كلّ لنفسه على شكل منظورات (وجهات نظر) مختلفة، وليس لأحد الحق، والحالة هذه، بأن يقرر أن رأياً أصوب من الآخر. فالحياة إذاً عبث (Shand, 1993).

وقد سار على خطى نيتشه متأثراً به الفيلسوف الفرنسي مابعد الحداثي ميشيل فوكو Foucault، الذي يعتبر من أعمق المفكرين المعاصرين أثراً في الفكر ما بعد الحداثي، والذي نادى بموت الإنسان، واتخذ موقفاً ناقداً للحداثة، (Best & Kellner, 1991). و بحث فوكو العلاقة بين السلطة والحقيقة والمعرفة، وقال بأن المعرفة أثر من آثار السلطة وتتكون بتفاعل اللغة والسلطة والمعنى (Slattry, 1995).



عوامل نشوء ما بعد الحداثة

من المسلم به أن التحولات التاريخية الكبرى، بخاصة الفكرية، لا يمكن أن تكون نتيجة لسبب واحد بل عادة ما تحدث بسبب عوامل متعددة ومتداخلة، لكن يكون من بينها غالباً عوامل أساسية وبارزة التأثير.

يذكر كثير من الباحثين سببين رئيسين لظهور هذا التيار.



السبب الأول: تطوّر العلم

أثبتت البحوث العلمية، التي كانت سلاح الحداثة الأكبر، بكشوفاتها الهائلة يوماً بعد يوم ضآلة ما يعرفه العقل البشري بالنسبة لما لا يعرفه. وأكدت تلك الاكتشافات بشكل غير مباشر محدودية عقل الإنسان، على الرغم من كل قدراته الهائلة. بل إنه يعتريه الضعف والنقص كغيره من المخلوقات، إلى درجة قد لا يوثق فيها بحكمه في بعض الأحيان. فاختلفت النظرة إلى قدرة العقل الذي هو مصدر المعرفة المطلق لدى التيار الحداثي، أو كما قال بعض الباحثين، قامت الحداثة على العقل لكنها هي التي دمرت العقل (العمري والعرابي، 1422). فالاكتشافات العلمية، خصوصاً بعد اكتشاف مبدأ اللايقين والفيزياء الكمية، بيّنت بطلان الأوهام التي حيكت عن قدرة العقل والعلم وفندت حتميات القرنين التاسع عشر والعشرين (كوش، 2002، ص 25).

"نجم عن تدمير الصورة النيوتونية [الميكانيكية] للعالم شيء من التواضع [العقلي] وانتعشت الميتافيزيقيا وازداد الاهتمام باللامعقول ولم يعد العلم بسيطاً … وقد كشف النقاب عن كون غامض مقدر لجزء منه أن يبقى غامضاً، كما قذفنا بأحجيات لا يستطيع العلم حلّ ألغازها داخل أعمق أعماق الحقيقة. وهكذا أصبح العلماء أكثر تواضعاً. وأخذوا يتحدثون عن الكون الغامض بدلاً من حديثهم عن التقدم نحو المعرفة الكاملة" (سترومبرج، 1994، ص 514)[1].

فالعلم، بحسب الرؤية ما بعد الحداثية محدود تسبب في شقاء البشرية، و"العلمية" وُظفت أيديولوجياً لسيطرة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى.

هذا بالإضافة إلى ما أصيب به العلم من تأثير السياسة وتوجيهات السلطة، إذ ينفي هابرماس وجود حياد أو صفاء علمي، فالعلم في سياق العقلانية التقنية الحداثية تحايثه حسابات السياسة أي إرادة السلطة، بالمفهوم النيتشوي، وهو ما يتطلب نقد الوضعية والتيارات المعجبة بالعلم والنزعة التقنية، فهذه كلها تعبيرات متنوعة للأيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية (يفوت، 1999، ص 91).

ومن هذا نشأ تيار "ما بعد الحداثة". فالعلم ـ كما يقول بعض أنصار "ما بعد الحداثة" ـ الذي هو عماد الحداثة، هو الذي هدم الحداثة و قاد إلى "ما بعد الحداثة". ففقدان الثقة بالعلم قاد إلى ردّة فعل تجاه الفلسفة التي كانت قائمة عليه.



السبب الثاني: فقدان الثقة بقضية التقدم

التقدم عقيدة مسلمة في التيار الحداثي. فالعالم ـ بحسب النظرة الحداثية، ومن خلال العلم والبحث العلمي يتقدّم ويتطوّر إلى الأفضل، حتماً. يقول وليم إنج "لقد كان الإيمان بالتقدم هو القوة المحركة للغرب طوال ما يقارب المائة والخمسين عاماً، ولقد انتهى الغرب أخيراً إلى إدراك عبثية ذلك الإيمان وعقمه" (سترومبرج، 1994، ص 562)[2].

مرّ الغرب بأزمات في القرن العشرين وحروب وانتشار أوبئة بيّنت بطلان ما كانت تبشر به الحداثة من المستقبل الزاهر والتقدم الموعود. فبعد الحرب العالمية الأولى خرج الغرب محطماً ومتهالكاً، وفاقداً الثقة بعقيدة التقدم(Lavin, 1989, p. 326). فعلى النقيض من نظرة الحداثة المتفائلة بمستقبل البشرية، تنظر ما بعد الحداثة بكثير من التشاؤم إلى المستقبل الذي تسير إليه البشرية في ظل النظرة الحداثية، فترى أنها جرت عليها من الويلات أكثر مما أفادتها.

فالتقدم الذي كان شعار الحداثة، لدرجة دعتها للمبالغة في القطيعة مع كلّ قديم، بدأ يتلاشى سريعاً، وقد سارع في بيان زيفه العلم الذي كان هو العنصر ذاته الذي كان يروّج الحداثيون بأنه سيقود للتقدم.

يقول جارودي واصفاً الوضع الذي آل إليه وهم التقدم الحداثي:

وتهاوت أوهام كثيرة، وهم رخاء الرأسمالية الذي لا حدود له، وهم الديموقراطية التي كان يتصورها الناس على أنها (جمهوريه الذوات الواعية ) وتصوروا وجودها يسمو على صالح الأفراد والجماعات،... وأوهام فلسفية أخرى تقابل تلك الأوهام التاريخية: وهم المثالية الطيبة التي تصور العالم على أنه عالم شفاف ينعم بوجود عقل خالق ومنظم له. هذه النزعات التلفيقية ذات النغمة الطيبة في عالم وجدت جميع المشكلات فيه حلاً لها من خلال التأليفات الروحية واجهت فجأة امتحاناً قاسياً في قلب الحياة نفسها وبتأثير الأفكار التي انبعثت من هذه الحياة وشاهدنا في بحر سنوات معدودات أن الفلسفات التي كان قد كتبت لها السيادة الكاملة حتى ذلك الحين – على الأقل في الجامعات – قد جرفها الطوفان وانقلبت الليبرالية العقلية إلى اتجاه عدمي فاشي وتحوّل المذهب التفاؤلي إلى وجودية مأساوية (جارودي، 1983).

فهذان سببان رئيسان لظهور ما بعد الحداثة، فقد الثقة بالعلم، الذي هو أساس الحداثة، وتحطم وهم التقدم الذي هو غايتها.

الإجابة عن السؤال الثاني:



2. ما خصائص ما بعد الحداثة؟

تقوم ما بعد الحداثة على قضيتين أساسيتين. الأولى على المستوى الأنطولوجي (أي ما يتعلق بطبيعة الوجود)، والثانية إبستمولوجية (أي نظرية المعرفة).

والقضية الأولى والأساسية التي تقوم عليها " ما بعد الحداثة" هي أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، أي حقيقة صادقة في ذاتها، بل إن الحقائق يصنعها المجتمع بجوانبه الثقافية المتعددة لأفراده. فعلى عكس النظرة الحداثية التي تسعى لتوحيد الرؤى من خلال البحث العلمي ووضع مبادئ عامة، فبحسب رؤية ما بعد الحداثة ليس هناك "حقيقة" يجب أن يقر بها الجميع، وليس هناك حق مطلق، بل الحقيقة تصنع عن طريق اللغة وفي داخل ذهن الإنسان لوحده. وبالتالي فما يقال عن التقدم أو التطور الذي رافق "الحداثة" أو الذي تدعو إليه ليس إلا خرافة، وما يقال عن قدرة العقل على "اكتشاف" الحقيقة إنما هو وهم. فالحقيقة لا تكتشف، إما لأنه ما من حقيقة أصلاً، أو لأنه لا يمكن الوصول لها. وإنما الحقيقة "تخلق" ولا تكتشف، فالإنسان هو الذي يخلق حقائقه. "فأفكارنا ليست انعكاساً للواقع بل قراءة له، وهي قراءة تتخذ صيغاً أسطورية وأيديولوجية ودينية ونظرية، وكلّ منظومة معتقدية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتميل إلى اعتبار كلّ ما يناقضها ويخالف حقيقتها أكذوبة أو خطأ. إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يقوم في التملك الوحيد الجانب للحقيقة" (يفوت، 1999). ولذلك كان من السمات الرئيسة لما بعد الحداثة التأكيد على أن زمن بناء التصورات العامة حول العالم أو السرديات الكبرى meta-narrativesقد انتهى وأن عصر إنشاء النظريات الكلية وبناء الأنساق الجامعة قد ولّى، بخاصة بعد أن ظهر الطابع التسلطي الهيمني لهذه النظريات وتبدت "إراد القوة" التي تسيرها (الشيخ والطايري، 1996).

فليس هناك حقيقة مطلقة، بل المعارف بنى اجتماعية يبنيها الإنسان، وهي حقيقة بالنسبة إليه. فالإنسان أسير ثقافته، وهي التي تحدّد له "حقائقه"، ولذلك ففرض تلك "الحقائق" على ثقافات أخرى تسلط وظلم، مهما قيل عن وجود دليل "عقلي" يسندها.

ففي النظرة ما بعد الحداثية ليس هناك من ذات أو حقيقة للفرد يبقى ملتزماً بها وصادقاً لها، بل هوية الفرد دائمة التبدل والتشكل وتغيّر توجهها تبعاً للتغيّر الدائم لعلاقاته (Gergens, 1991).

وتفرّع عن هذا أصل آخر وهو التعددية multiplicity، فما دام أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، بل الكل حقائق نسبية، فلا بدّ من قبول التفسيرات المتغايرة، والمتناقضة أحياناً، للحقيقة. فالتعددية وتنوع التفسير والتصور أمر مقبول بل مرغب فيه في التوجه ما بعد الحداثي.

القضية الأساسية الثانية التي تقوم عليها مابعد الحداثة قضية إبستمولوجية (أي تتعلق بطبيعة المعرفة، أو العلاقة بين الشيء المعروف وبين العارف أو الباحث)، وهي الذاتية في مقابل الموضوعية. فعلى عكس ما تنادي به الحداثة وتؤكد عليه، ليس من الممكن، بحسب الرؤية ما بعد الحداثية، الفصل بين الملاحِظ والشيء الملاحَظ، أو بين الباحث والمبحوث. فالحقيقة إنما هي تصورنا أو إدراكنا للحقيقة في سياق ذاتي واجتماعي محدّد.

يرى ما بعد الحداثيين أنه لا يمكن أن نعرف أن الصورة التي في أذهاننا مطابقة للواقع الخارجي إلا بأن يقف الإنسان خارج نفسه ويقارن بين ما في ذهنه وما في الواقع الخارجي. وحيث إن هذا غير ممكن فليس لدينا طريقة للتأكد من أن هذه المطابقة دقيقة. فليس لدينا إلا الشك، وكل علم نصل إليه ليس موضوعياً.

فالرؤية ما بعد الحداثية ترفض المعادلة الحداثية القائلة بالعقل والحرية، وتسعى إلى بيان الإشكالية في الصيغ الحداثية للعقلانية بوصفها عامل اختزال وإلغاء وقهر (Best & kellner, 1991, p. 34). وحيث تميل الحداثة إلى النظر للمعرفة والحقيقة على أنهما محايدتان وموضوعياتان وتأخذان صبغة العالمية والعموم وهما وسيلة للتقدم والتحرر يحللهما فلاسفة ما بعد الحداثة على أنهما عناصر متداخلة للسلطة والهيمنة (Best & kellner, 1991, p. 50).

هذه هي الخصائص الأساسية لما بعد الحداثة، تداخلت في تكوينها تيارات فكرية متنوعة، لكنها تلتقي عند إعادة النظر في مفهوم العقلانية والموضوعية.



الإجابة عن السؤال الثالث:

3. ما نظرية المنهج المدرسي التي يتبناها توجه ما بعد الحداثة، وما آثارها على عناصره ؟

للإجابة عن هذا السؤال سوف يتمّ بحث ثلاث نقاط رئيسة: أهداف المنهج، ومحتواه، ودور المعلم و الطالب.

من خلال الإجابة عن السؤال الثاني تبيّن أن المعرفة في التيار ما بعد الحداثي ليست مطلقة بل نسبية. فما بعد الحداثة في مجملها لا تنكر وجود حقيقة لكنها ترى أن الوصول لها غير ممكن، وأن ما نمتلكه هو تصورنا للحقيقة، نصنعه من خلال اللغة ومن خلال التفاعل مع المجتمع.

هذه النظرة إلى الحقيقة انعكست على النظر إلى المعرفة، فالمعرفة في المنظور المابعد حداثي تُبنى في سياق ثقافي، (Leistyan, 1999). فالمعرفة بنية ثقافية، وليست، كما في الرؤية الحداثية، حقيقة قائمة بذاتها.

بحسب التيار ما بعد الحداثي فإنه ليس هناك نظرية واحدة للمنهج. وذلك من مبدأ رفض التفسيرات العامة أو السرديات الكبرى. ولذلك فالتنظير ما بعد الحداثي للمنهج ينصبّ على ما يجب أن لا يكون، وليس على ما يجب أن يكون.

وتوافقاً مع هذا، يبرز لتمثيل التيار الحداثي في ما يتعلق بالمنهج توجهان: التوجه النقدي، والتوجه البنائي.

التوجه النقدي يرى أن مهمة المنهج هي مساعدة الطالب على نقد واقعه وعلى بيان صور التحكم والاضطهاد الذي تمارسه العناصر القوية والمسيطرة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية، على العناصر الأضعف في المجتمع. ويرتبط بهذا التوجه الاعتقاد بأن المعرفة بشكل عام، وعلى مرّ التاريخ، وبخاصة في التوجه الحداثي، معرفة مسيسة، بناها الأقوياء والمسيطرون، وأنها جزء من نظام الهيمنة التي يجب أن يكون للمنهج، وللتربية بشكل عام، دور في تخليص الطالب منه. فالأحداث التاريخية يمكن أن تروى بصور متعددة، من وجه نظر المنتصر، أو المستفيد من الانتصار، أو المهزوم أو المتأثر بالهزيمة. وكل يضيف من المعاني ما يناسبه أو يخدمه. والمنهج ما بعد الحداثي يجب أن لا يخدم القوي، بل يساعد المهمش والضعيف على كشف جوانب الاضطهاد التي يمارسها الأقوياء والمسيطرون من خلال تقديم الأحداث من وجهة نظر الحقيقة كما يراها هو. ولذلك يتركز بحث النقديين على قضايا العرق والجنس والطبقة بوصفها مواطن التمييز والاضطهاد السياسي والاجتماعي على مر العصور(Ornstien & Hunkins, 2004, p. 187). كما أن من سمات المنهج ما بعد الحداثي في هذا التوجه القول بأنه ليس هناك رؤية واحدة قادرة على تغيير العالم، وأنه يجب التحقق من كلّ دعوى بامتلاك الحقيقة (Janesick, 2003).



التوجه البنائي

التوجه الثاني الرئيس داخل التيار ما بعد الحداثي هو التوجه البنائي. والتوجه البنائي يخالف النظرة الحداثية التي ترى أن المعرفة تنقل، ويرى أن المعرفة تبنى داخل عقل المتعلم. وأن كل متعلم يبني نسخته الخاصة به من المعرفة. وهو لا يهتم كثيراً كما تفعل النظرية النقدية بتتبع مراكز السيطرة أو الهيمنة، بل يهتم بتشجيع بناء المعاني الذاتية، ومساعدة الطالب على تطوير عمليات التفكير لديه ليكتمل المعنى الذي يبنيه ويكون ناضجاً وغير مبتسر.

فالتوجه البنائي قد يصل إلى ما يسعى له التوجه النقدي، لكنه أكثر تفاؤلاً وإيجابية منه وأوسع أفقاً.



أهداف المنهج:

هدف المنهج في التوجه ما بعد الحداثي أن يكون تحويلياً Transformative، بمعنى أنه يحوّل الطالب والمجتمع من حال التسليم والخنوع بما يقدم إليه إلى حالة التحدي والمساءلة لما يقدم له، ومن حالة الاكتشاف له إلى فهمه، بحيث يمكن للطالب أن يتفحص ويدرك العالم من حوله أولاً ثم يفهم نفسه بشكل أكبر، بما يساعده على تحمل مسؤولية ذاتية واجتماعية عن مستقبله. ولذا فالأنشطة التعلمية غير مخطّط لها مسبقاً، بشكل صارم، إنما تتقرر بناء على رغبات الطلاب وعلى الطرائق التي يتم بها الفهم في أذهان الطلاب. فالمنهج في النظرة ما بعد الحداثية يهتم بالطريقة التي يبني بها الطلاب المعرفة من منظورات مختلفة، بأساليب تعلمية متنوعة وذكاءات متعددة، لا تعتمد فقط على الذكاء التقليدي الرياضي المنطقي ( Caine & Cane, 1997).

فمن الأهداف الأساسية للمنهج مساعدة الطلاب ليكونوا مقتدرين على الاتصال ومتحققين من المعرفة التي يستقبلونها، قادرين على التفكير في المشكلات الاجتماعية والثقافية التي تشكّل الأزمات التي يواجهونها (Ozmon & Craver, 1999).

وبشكل عام يرى أنصار ما بعد الحداثة أنه يجب أن لا ينظر إلى المنهج على أنه مواد منفصلة ومعلومات تكتسب، لكن يجب أن يحتوي على موضوعات السلطة والتأريخ والهويات الفردية والجماعية والنقد الاجتماعي التي تقود إلى العمل الجماعي، وتساعد على الفهم وبناء الوعي. فالمنهج ينجح عندما يمكّن الناس empower people ويحوّل المجتمع إلى حالة أفضل (Ozmon & Craver, 1999). فهدف المنهج أن يحرّر المتعلّم من التصورات العامة (السرديات الكبرى metanarratives)، التي يسعى المنهج الحداثي لتأصيلها في عقول الطلاب، من خلال الإقرار بالتعددية وتقدير التنوّع، من خلال رفض قبول ثمثيل موحد أو مظهر واحد للعالم(Orstien & Hunkins, 2004,p. 189). وهذا ما مهّد بشكل كبير لظهور الطالب العولمي، فالغاية هي مساعدة الإنسان على التحرر بغض النظر عن موطنه.



محتوى المنهج:

في المنهج الحداثي هناك تركيز على الحقائق والمفاهيم والمبادئ. ومن الأشياء الأساسية التي يقدمها المنهج طبيعة الموجودات أو الحقائق. وبحسب النظرة مابعد الحداثية يجب أن يؤصل في أذهان الطلاب أنه ليس هناك حقائق خارج الذهن، وأن الحقائق تبنى عن طريق اللغة وداخل الثقافة. ولذا فليس هناك من حقائق مطلقة، بل هي حقائق نسبية. يجب أن لا يحتوي المنهج على حقائق يراد نقلها إلى الطالب، ولا بدّ أن يحتوي على القليل من التجريد والتنظير، وبدلاً من ذلك يركّز على الاهتمامات الفردية للطلاب وعلى التطبيقات العملية (Armstron, et al., 2001).

في المنهج الحداثي يغلب النظر للعلوم على أنها مجالات منفصلة مختلفة discipline، بينما في التوجه ما بعد الحداثي ليس هناك من هيكل ثابت لهذه المجالات، فالمجالات متداخلة (Ornstien & Hunkins, 2004, p. 187).

ويبتعد المنهج ما بعد الحداثي عن النظرة الحداثية للمنهج التي تنحو المنحى التراكمي في تقديم المحتوى، إلى المنهج التحويلي، الذي يسعى لإحداث تحويل في فهم الطالب لما حوله ومن ثم فهمه لنفسه (Denig, 1999).

والمنهج ما بعد الحداثي لا يرفض الغيبيات أو يقلّل من قيمتها كما تفعل الحداثة، بل يعترف بها، وربما يشجعها، لكن ليس على أنها حقائق مطلقة، بل على أنها ثقافة شكلتها منظومة اجتماعية خاصة. ويجب أن لا تتعدّى إطار تلك المنظومة.

والأخلاق والقيم أيضاً نسبية، وما يعتبر خلقاً فاضلاً في ثقافة قد يكون ظلماً في ثقافة أخرى، وفرض قيم معيّنة من صنع الثقافات الجائرة التي تريد أن تفرض "حقائقها" على أنها حقائق مطلقة.

ويرى أنصار ما بعد الحداثة أن منظومة القيم التي يريد، المنهج الحداثي فرضها، إنما هي من إفرازات للعلاقة بين العلم والسلطة، وأن السلطة هي التي توجه العلم وتجعله مؤدلجاً، وتستغله لفرض وجهة نظر معيّنة.



دور المعلم والطالب

يميل المنهج في التوجه الحداثي لأن يكون متمركزاً حول المعلم، بحيث يكون المعلم ناقل المعلومة ومصدرها الرئيس.

ما بعد الحداثة ترى أن مهمة المعلم ليست أن يقوم بنقل الحقائق كما يراها هو إلى ذهن الطالب، بل أن يساعده في بناء حقائقه الخاصة التي يشكلها مجتمعه وثقافته.

ومن وجهة النظر النقدية من التيار ما بعد الحداثي فدور المعلمين أن يكونوا مفكرين، وبعبارتهم، "عمالا ثقافيين" cultural workersينتجون المزيد من الآيديولوجيات والممارسات المناسبة للمجتمع. فمهمة المعلمين ليست تدريس المعارف ونقلها لأذهان الطلاب، كما في المنهج الحداثي، بل مساعدة الطلاب لرؤية المصالح الأيديولوجية والسياسية التي قد يخدمها المنهج بطرق مختلفة، وذلك ليس فقط عن طريق بيان كيف أن المعرفة يمكن أن تستخدم لإيجاد فهم شمولي وإظهار الأشياء على أنها موضوعية totalize and objectify، بل لبيان أنه يمكن أن تستخدم المعرفة لتحرير الطلاب ليكونوا نقديين وأعضاء مسؤولين في نظام ديموقراطي (Ozmon & Craver, 1999). فمهمة المعلم أن يكون ميسراً للتعلم، وليس مصدراً للحقيقة. وبهذا ينتهي دور المعلم كمصدر للمعلومة، وحاكم عليها، بحيث يكون دوره تسهيل عملية التعلم وتنظيمها، ولذا لم يعد حضوره الحسي الدائم أحد شروط التعلم، بل أصبح من الممكن أن يتمّ التعلم بدونه أو بإشراف من فقط. فبرز دور التعلم التعاوني وتعلم الأقران حيث يتمّ تعلم الزملاء بعضهم من بعض.

ما بعد الحداثة تؤكد على أن الطالب يجب أن يتعلم أن لا يعتمد على الموضوعية التي تزعمها الحداثة ( Chambliss, 1996, p. 403). وقد كان لما بعد الحداثة أثر على طبيعة العلاقة بين الطالب والمعلم، فحيث لم يعد ينظر للمعلم على أنه الخبير الذي يزود الطالب بالمعلومات، صار هناك تركيز على التفاعل الفردي بين الطالب و"المعلم" والاستكشاف المشترك (Doll, 1993). وأصبح من الممكن أن يتم التعلم على شكل مجموعات دراسة.

فالتصور ما بعد الحداثي للتعلم مبنيّ على الاعتقاد بأن كلّ فرد يصنع المعنى من مصادر مختلفة، بدلاً من استقبالها جاهزة من خبير (Caine & Cane, 1997). ولذلك فهناك تركيز تام في طرق التدريس على الحوار والاستكشاف، مع التقليل من دور المعلم بوصفه مصدراً للمعلومات. وبينما انتهجت بعض الاتجاهات التي لا تنتمي إلى تيار ما بعد الحداثة منهج الاسكتشاف، فإن ما بعد الحداثة تنتهج هذا الأسلوب لا على أنه سبيل لاكتشاف الحقيقة، بل على أنه جواب مؤقت إلى حين يتمّ اكتشاف غيره(Haushildt & Wesson, 1999).

هذا التصوّر الما بعد حداثي للتعلم والتعليم أسهم، مع عوامل اقتصادية وتقنية وثقافية أخرى، في تهيئة مناخ مناسب لإيجاد عولمة تربوية، وأضفى صبغة عولمية على التعليم.

إن الظروف التي تضعنا فيها ما بعد الحداثة تجعل حقل التربية بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص أمام تحديات كثيرة. فنسبية الحقيقة في كثير من جوانبها على الأقل، وتقدير التعددية والتنوع واحترام عدم التجانس مهّد لبروز التوجه العولمي في التربية أو كان من إرهاصاته.