عتمد
النَّظرية الإسلامية في التَّربية على أربعةِ أُسُسٍ؛ وهي: تربية الجسم، وتربية الرُّوح، وتربية النَّفس، وتربية العقل، وفق قواعد وقيم الإسلام كما جاءت في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، ومنهاج الصَّحابة والسَّلف الصَّالح رضوان الله تعالى عليهم جميعًا، ووضع الإسلام في الإطار عددًا مِن الأولويَّات والمُقوِّمات في هذا المُقام، مثل التَّراحُم والتَّكافُل بالشكل الذي يضمن قيام مجتمعٍ إسلاميٍّ قويٍّ.

ولقد عُنِيَ الإسلام عنايةً خاصَّةً بالتَّعامُل مع مرحلة المراهقة، واهتمَّ بصحَّة المُراهِق النَّفسيَّة والرُّوحيَّة والعقليَّة، ففي القصص القرآنيِّ الكريم ما يوجِّه إلى مُراهقةٍ مُنضبطةٍ، ويدعو إلى تعليم الأبناء مكارم الأخلاق فيها، كما ورد في سُورة "لُقْمان"، وكانت أوَّل تعاليم "لُقْمان" لابنه هو صلاحُ الدِّين والعقيدة، فيقول الله تعالى على لسانه: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾، وكذلك في السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة؛ فقد صَحَّ عنه "صلَّى الله عليه وسلَّم" قوله: "لاعبوهم سبعًا وأدِّبوهم سبعًا وصادقوهم سبعًا ثُمَّ اتركوا لهم الحبلَ على الغارِب" [رواه البخاريُّ ومسلمٌ وغيرهما].

ومن بين هدي الإسلام في تحقيق الانضباط في مرحلة المراهقة؛ الطَّاعة لله تعالى ولرسوله، ثُمَّ طاعة الوالدَيْن ومَن في حكمهما، والاقتداء بالرسول الكريم مُحَمَّدٍ "صلَّى الله عليه وسلَّم".. قال تعالى في سُورة الأحزاب: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾، وكذلك الاقتداء بنماذج الصَّالحين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

كذلك جاء الإسلام بالكثير مِن الأمور التي أثبتها العلم الحديث في شأن تأثير الأب والأم والبيئة المحيطة بالمراهُق على طبيعته وأخلاقيَّاته وسلوكه، فللرَّسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" حديثٌ صحيحٌ رواه الشَّيخان، قال فيه: " كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفِطرة فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه".

وهناك مجموعةٌ كبيرةٌ من الأخلاق التي يجب تربية الإنسان المسلم عليها مُنذ نعومة أظافره، ومن بينها الإخلاص والصَّبر وبرِّ الوالدَيْن واحترام الكبير وغيرها.


الإخلاص:

يعني الإخلاص أنْ يجعلَ المُسلم كلَّ أعماله لله سبحانه وتعالى وابتغاء مرضاته، وليس طلبًا للرِّياء والسُّمْعة، ويعني أداء الأعمال كما ينبغي أنْ يتمَّ تأديتها، والإخلاص صفةٌ لازمةٌ للمسلم، أيًّا ما كان؛ عاملاً أو تاجرًا أو طالبًا أو غير ذلك؛ فالعامل يتقنُ عملَه لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمرَه بإتقان العمل وإحسانه، والتاجر يتَّقي الله في تجارته، فلا يُغالي على النَّاس أو يغشُّهم، والطَّالب يجتهدُ في مُذاكرته وتحصيل العِلم ابتغاءً لمرضاة اللهِ تعالى، ولكي ينْفَعُ المسلمين بهذا العِلم.

واللهُ تعالى لا يقبلُ مِن الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه سُبحانه وتعالى. قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)﴾ [سُورة البَيِّنَةُ]، وقال "صلَّى الله عليه وسلَّم": "إنَّ اللهَ لا يقبلُ مِن العملِ إلا ما كان له خالصًا وابْتُغِي به وجهُه" [رواه النَّسائي].

الصَّبْر:

الصَّبر هو أنْ يلتزمَ الإنسان بما يأمره اللهُ به فيؤدِّيَه كاملاً، وأنْ يجتنبَ ما ينهاه عنه، وأنْ يتقبَّلَ بنفسٍ راضيةٍ ما يُصيبه مِن مصائب وشدائد وابتلاءاتٍ، ولذلك فالمسلم الصابر لا يجزع أو يحزن لمصائب الدُّنيا ويتحمَّل المشاق مهما كانت، والصبر هو أحد المعينات المُهمَّة التي يمكن للإنسان بها احتمال مشكلاته وظروفه مهما كانت.. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾ [سُورة البقرة].

وفي صدر الإسلام الأوَّل؛ ضرب الصَّحابة والتَّابعين نماذج رائعةً في الصَّبر يُمكن أنْ تكون نماذِجَ تربويَّةً مُهِمَّةً، ومن بينهم كان هناك شبابٌ ومراهقون، ومن بين ذلك آل ياسر "رَضِيَ اللهُ عنهم" الذين عذَّبَهُم المشركون عذابًا شديدًا لكي يرجعوا عن دينهم، ولم يرجعوا برغم أنَّه مِن قسوة التَّعذيب مات ياسر وسُميَّة "رَضِيَ اللهُ عنهما"، وكان الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم" كُلَّما مرَّ عليهم؛ قال لهم: "صَبرًا آل ياسر فإنَّ موعِدَكُم الجنَّة"؛ حيث ضربوا أروع الأمثلة في الصَّبر وتحمُّلِ الأذى.

الإحسان:

يُعرَّفُ الإحسان على أنَّه مُراقبة الإنسانِ للهِ تعالى في كلِّ عمله، وفي السِّرِّ والعلن، وفي القول والفِعْل، وهو أيضًا يعني فِعْل الخيرات على أكملِ وجهٍ، وابتغاء مرضاةِ اللهِ به، وهو أمرٌ مطلوبٌ من كلِّ مسلمٍ، في تعاملاته مع الآخرين وخصوصًا والدَيْه وجيرانه، ومع نفسه، ومِن قبل ومن بعدِ، مع ربِّه، ويقول "صلَّى الله عليه وسلَّم" في تعريف الإحسان: "الإحسانُ أنْ تعْبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لَّم تكُن تراه فإنَّه يراك" [مُتَّفَقٌ عليه]، ويقول أيضا "عليه الصَّلاة والسَّلام": "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسانَ على كلِّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْحَ، ولْيَحِدَّ أحدكم شَفْرته ولْيُرِح ذبيحته" [رواه مسلمٌ].

الأمانة:

هي مِن أهمِّ الصِّفات التي يجب على الإنسان أنْ يتَّصِفَ بها، وفي قصَّةِ نبيِّ الله مُوسى "عليه السَّلامُ"، يقول الله تعالى في سُورة القصص: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾، والأمانة تعني أداء الحقوق والمحافظة عليها، فالمسلمُ الصَّحيح هو الذي يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ فيؤدِّي حقَّ اللهِ في العبادة، ويحفظ جوارحه عن الحرام، ويردُّ الودائع، ويحفظ حقوق الآخرين

والأمانة خلقٌ جليلٌ مِن أخلاق الإسلام، وأساسٌ مِن أُسُسِه، وهي فريضةٌ عظيمةٌ حملها الإنسان، بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أنْ يحملنها لعِظَمِها وثِقَلِهَا.. يقول الله تعالى في سُورة "الأحزاب": ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾، والله تعالى أمر الإنسان بأداء الأمانات إلى أهلها في سُورة النساء، كما جعل الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم" الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحسن خلقه، فقال "عليه الصَّلاة والسَّلام": "لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له ولا دِيْنَ لمَنْ لا عَهْدَ له" [رواه أحمد في المُسْنَدِ].

برُّ الوالدَيْن:

برُّ الوالدَيْن يعني الإحسان إليهما وطاعتهما وفِعل الخيرات لهما، والتَّجاوُز أيضًا عن سيئاتهما وقد جَعَلَ اللهُ للوالدَيْن منزلةً عظيمةً، فجَعَلَ برَّهُما والإحسان إليهما والعمل على رضاهما فرضًا عظيمًا، وذكر ذلك بعد الأمر بعبادته مباشرةٍ في أكثر من سُورة من سور القرآن الكريم، ومن بين ذلك قول الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)﴾ [سُورة الإسراء]، والرسول الكريم في حديثٍ صحيحٍ له ذكر عقوق الوالدَيْن مِن أكبر الكبائر بعد الشِّرْكِ بالله تعالى.

والإنسان المسلم الصَّحيح يبرُّ بوالدَيْه في حياتهما، وكذلك بعد موتهما؛ بأنْ يدعو لهما بالرَّحمة والمغفرة، وينَفِّذَ عهدهما، ويكرمَ مَن كانا يُحبَّانهم.

القناعة:

القناعة هي الرِّضا بما قَسَمَه اللهُ تعالى، ولو كان قليلاً، وهي عدم التَّطلُّع إلى ما في أيدي الآخرين أو حسدهم عليه، وهي علامةٌ مِن علاماتِ صدقٍ الإيمان، فيقولُ الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "قد أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ ورُزق كفافًا وقَنَّعه اللهُ بما آتاه" [رواه مسلمٌ]، ومن بين أوجه قناعته هو "صلَّى الله عليه وسلَّم" أنَّه كان يرضى بما عنده، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتطلَّع إلى ما عند غيره، فكان صلى الله عليه وسلم يعمل بالتجارة في مالِ السَّيدة خديجةِ "رَضِيَ اللهُ عنها"، وكان يربحُ كثيرًا مِن غير أنْ يطمع فيما يحصل عليه مِن مالٍ، وكانت تُعْرَضُ عليه الغنائم والأموال التي يغنمها المسلمون في المعارك والغزوات، فلا يأخذ منها شيئًا؛ بل كان يوزعها على أصحابه.

الاعتدال:

ويعني التَّوسُّطُ والاقتصاد في الأمور، وهو أفضل طريقةٍ يتَّبِعُها المُؤمن ليؤدِّي ما عليه من واجباتٍ نحو ربِّه، وكذلك نحو نفسه ونحو الآخرين، وقد أمرَ الإسلام بالاعتدال وعدم الإسراف، وهو نقيض الاعتدال.. قال اللهُ تعالى في سُورة "الإسراء": ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)﴾، وقال النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "القَصْدَ القَصْدَ تبلُغُوا" [أي الزموا التَّوسُّط في تأدية أعمالِكم تُحقِّقوا ما تريدونه على الوجه الأتم] [رواه البُخاريُّ وأحمد].

الكَرَمُ:

الكرم هو الجُودُ، ويطلقُ على كلِّ ما يُحْمَدُ مِن أنواعِ الخَير والشَّرف والعطاء والإنفاق، وفي الإسلام فإنَّ الكَرَمَ أحد صور التقوى؛ فقد سُئِلَ رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم": مَن أكرمُ النَّاسِ؟. قال: "أتقاهُم للهِ". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرمُ النَّاسِ يُوسُفُ نبيُّ اللهِ ابنُ نبيِّ اللهِ ابنُ نبيِّ اللهِ ابنُ خليلِ اللهِ" [رواه البُخاريُّ]، ويقول المُفسِّرون إنَّ الرَّسول "صلَّى الله عليه وسلَّم"
وَصَفَ نبيَّ اللهِ يُوسُفَ "عليه السَّلامُ" بالكَرَمِ لأنَّه اجتمعَ له شَرَفُ النُّبوَّةِ والعِلْمِ والجَمَالِ والعِفَّة وكَرَمِ الأخلاق والعدل ورياسة الدُّنيا والدِّين، كما أنَّه نبيٌّ ابن نبيٍّ، وهو سيِّدُنا يعقوب "عليه السَّلامُ"، ابن نبيٍّ، وهو سيِّدُنا إسحاق "عليه السَّلامُ"، ابن خليلِ الله تعالى إبراهيم "صلَّى الله عليه وسلَّم".

والله تعالى اختار الكرم لنفسه مِن الصِّفات والأسماء الحُسنى؛ فهو الكثيرُ الخيرِ، الجوَّاد المُعطي الذي لا ينفدُ عطاؤه، كما كان النَّبيُّ الأعظم نموذجا للكرمِ، فو أكرمُ النَّاسِ شرفًا ونسبًا، وأجودُ النَّاس وأكرمهم في العطاء والإنفاق، فقد أتاه رجل يطلب منه مالاً، فأعطاه النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" غنمًا بين جبلين، فأخذها كلها، ورجع إلى قومه، وقال لهم: "أسلموا، فإنَّ مُحَمَّدًا "صلَّى الله عليه وسلَّم" يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر" [رواه الإمام أحمد في المُسْنَدِ].

الإيثار:

الإيثار هو أنْ يقدِّمَ الإنسانُ حاجةَ غيره مِن النَّاس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذُلُه، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه، أو ينفقُ على المسكين وهو بحاجةٍ إلى المال، وهكذا، وفي الهديِّ النَّبويِّ، يقول رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "لا يؤمنُ أحدُكُم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِهِ" [مُتَّفَقُ عليه]، وتقول السَّيِّدةُ عائشةٌ "رَضِيَ اللهُ عنها" عنه "عليه الصَّلاة والسَّلام": "ما شَبِعَ رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم" ثلاثةَ أيَّامٍ مُتواليةٍ حتى فارق الدُّنيا ولو شِئنا لشبعنا ولكنَّنا كُنَّا نُؤْثِرُ على أنفسنا" [رواه مُسلمٌ]، في المثابل نهى الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم" عن صفة الأنانية والأثرة وحبِّ النَّفسِ، وهي نقيضُ الإيثار.

ويقول اللهِ تعالى في فضل من يؤثرون على أنفسهم، في سُورة "الحشر": ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾

الحُلْمُ:

الحُلْمُ هو ضبطُ النَّفسِ وكظمُ الغيظ، والابتعاد قدر الإمكان عن الغضب، ومُقابلة السَّيِّئة بالحَسَنَةِ، ولكنَّه لا يعني أنْ يرضَى الإنسان بالذُّلِّ أو يقبلُ بالهوان، وإنَّما هو التَّرفُّعِ عن شَتْمِ النَّاس، وتنزيه النَّفسِ عن سبِّهم وعيبهم، وهو أحد الصِّفات التي اختارها اللهً تعالى لنفسه، فهو سُبحانه وتعالى هو الحليم الذي يصفح عن العُصاة المُخالفين لأوامره فيُمهِلُهم، ولا يُسارع إلى الانتقام منهم.. قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)﴾ [سُورة البقرة].

والحُلْمُ هو نقيضُ الغَضَبِ، الذي يعني إنفاذُ الغَيْظِ وعدم السَّيطرة على النَّفسِ، وهو خُلُقٌ ذَميمٌ،، وفي هَدي الرسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم"، فقد جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، فقال له: أوصني. فقال رسولُ اللهِ "عليه الصَّلاة والسَّلام": "لا تَغْضَبْ"، فأعاد الرَّجلُ السُّؤال وردَّده أكثر من مرَّةٍ، فقال النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "لا تَغْضَبُ" [رواه البُخاريُّ].

ولكن الغضب المنهيُّ عنه هنا هو الغضب المذموم، ولكن هناك غضبٌ محمودٌ، وهو الذي يحدث للإنسان بسبب حرمةٍ مِن حُرُماتِ اللهِ، ويكون هدفه الدِّفاع عن مقاصد الشَّريعة، الدِّين أو النَّفسِ أو العِرض أو المال أو العقل، أو لردِّ حقٍّ اغتصبه ظالمٌ، وكان رسول الله "صلَّى الله عليه وسلَّم" لا يَغْضَبُ أبدًا إلا أنْ يُنْتَهكَ مِن حرماتِ اللهِ شيءٌ كما قالت السَّيِّدة عائشةُ.

الرِّفقُ:

يعني الرِّفُقُ التَّلطُّفَ في الأمور والابتعاد عن العُنْفِ والشِّدَّة والغِلْظَةِ، وقد أَمرَ اللهُ بالتَّحلِّي بخُلُقِ الرِّفقِ في سائر الأمور، فقال في سُورة "الأعراف": ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾، وقال تعالى أيضًا في سورة "فُصِّلَتْ": ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾.


وكان النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" أرفقَ النَّاسِ وألينهم، ومن بين صور ونماذِجَ ذلك عندما أتى إليه أعرابيٌّ، وطلب منه عطاءً، وأغلظ له في القول، فتبسَّمَ النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" في وجهه، ثُمَّ أعطاه حمولةَ جملَيْن مِن الطَّعامِ والشَّراب، وكان الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم" يُلاعب سِبْطَيه الحسن والحسين "رَضِيَ اللهُ عنهما" ويقبُّلهما، ويحملهما على كَتِفِه، وقال للأعرابيِّ الذي قال له إني لي من الوَلَدِ كذا، ولم أقبِّلْ أحدهم قطٌّ: "ارحموا مَن في الأرضِ يرحَمُكُم مَن في السَّماء" [رواه البخاريُّ ].

العدل:

ويعني الإنصاف وإعطاءَ المرءِ ما لهُ وأخذَ ما عليه. وهو مِن أهمِّ ما دعا إليه الله تعالى من قيمٍ وأخلاق، وهو أحد صفاته عزَّ وجلَّ، وبه تستقيم الحياة، وتستوي العلاقات ما بين البشر ما دام كلٌّ منهم آمنٌ على حقوقه ويعلم أنَّه مؤداةٌ إليه، وهو أحد أوجه الأمانة، وفي القرآن الكريم أكثر مِن آيةٍ تدعو إلى العدل، ومن بينها ما وردَ في سُورة "النَّحلُ": ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾.

وللعدل صورٌ عديدةٌ، ومن بينها العدل ما بين عباد الله تعالى والمتخاصمين منهم، والعدل بين الأبناء، وغير ذلك.

الحياءُ:

الحياء هو أنْ تخجلَ النَّفسَ مِن العيبِ والخطأ وتترفَّع عنه، وخصوصًا فيما يتعلَّقُ بالشَّرف، والحياءُ شعبةٌ من شُعَبِ، فقد قال رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "الإيمانُ بضعٌ وستُّون شعبةً، والحياءُ شعبةٌ مِن الإيمان" [مُتَّفقٌ عليه]، وقال عنه "عليه الصَّلاة والسَّلام" إنَّه قرينُ الإيمان.. "الحياءُ والإيمانُ قُرَنَاءَ جميعًا، فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر" [رواه الحاكمُ في المُستدرك]، ولكن الحياء لا يجب أنْ يمنعَ المسلم مِن أنْ يقولَ الحقَّ أو يطلبُ العلمَ أو يأمر بمعروفٍ أو ينهي عن مُنكرٍ.

الوفاء:

يعني أنْ يلتزِمَ الإنسان بما عليه من عهودٍ والتزاماتٍ وواجباتٍ، وقد أَمَرَ اللهُ تعالى بالوفاء بالعهد، فقال في سُورة الإسراء: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)﴾، والرسولُ الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" وضع عدم الوفاء بالعهد ضمن صفات المنافقين العمليَّة، فقال "صلَّى الله عليه وسلَّم" في حديثٍ رواه أبو هريرةٍ: "آيةُ المنافق ثلاث إذا حدَّث كَذَبَ وإذا وَعَدَ أخلَفَ وإذا اؤتُمِنَ خان" [رواه الشَّيخان].

وللوفاء أنواعٌ كثيرةٌ، فهناك الوفاءُ مع اللهِ تعالى، وهو أنْ يعبدَه الإنسان لا يشركُ به شيئًا، ويعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، وهناك الوفاءُ بالعقود والعهود، والوفاء بالكيل والميزان، وكذلك الوفاء بالنَّذْرِ، أي أنْ يتعهَّد الإنسان بأداء طاعةٍ لله تعالى إذا ما حدث ما يتمناه في الخير.

الشُّورى:

الشورى هي أنْ يأخذَ الإنسانُ برأي أصحابِ العقولِ الرَّاجحةِ والأفكار الصائبة، ويستشيرهم حتى يتبيَّن له الصَّوابُ فيتَّبِعُه، ويتَّضِحُ له الخطأ فيجتنبه،
وهي ركنٌ من أركان الحُكْمِ الثَّلاثة في الإسلام، وهي: العدل والمساواة والشُّورى، وعلى مكانة الشُّورى وأهميَّتُها في الإسلام؛ فقد سمَّى اللهُ تعالى سُورةً من سُوَرِ القرآن الكريم باسم "الشُّورى"، وجعلها إحدى سمات المؤمنين.. قال الله تعالى في سُورة "الشُّورى": ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)﴾، وأمرَ اللهُ سُبحانه وتعالى رسولَه الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" بأنْ يُشاوِرَ المسلمين في كلِّ أمرٍ ويأخذُ بأرائهم.. قال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [سورة آل عمران- مِن الآية 159].

والشُّورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمرٌ مِن اللهِ تعالى أو مِن الرَّسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ حيث إنَّه لا شُورى مع وجود نصٍّ شرعيٍّ، وقد كان النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" دائمَ المُشاورة لأصحابه في كلِّ أمرٍ يُقْدِمُ عليه ما لم ينْزِلُ فيه قرآنٌ، فإذا كان هناك وحيٌ مِن اللهِ طبَّقه الرَّسول "صلَّى الله عليه وسلَّم" دون تأخيرٍ.

الشُّكْرُ:

الشُّكْرُ هو المُجازاة على الإحسان، والثَّناء الجميل على مَن يُقدِّمُ الخير والإحسان، والحمدُ هو الشُّكْرُ المُزدَوِج، وهو للهِ تعالى وحده ولا يجوز لغيره بحسب الكثير من عُلماء المسلمين، والشُّكْرُ أحد الصِّفات الملازمة لأنبياء اللهِ تعالى، وورد في القرآن الكريم الكثيرُ مِن الآياتِ التي تدلُّ على شكر الأنبياء، ومن بينهم أبوهم إبراهيم "صلَّى الله عليه وسلَّم".. قال تعالى في سُورة "النَّحلُ": ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)﴾، ووصف اللهُ عزَّ وجلَّ نبيه ورسولَه نوحًا "عليه السَّلام" بأنَّه كان عبدًا شكورًا، فقال تعالى في سُورة "الإسراء": ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)﴾.

وكان رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم"
كثيرَ الشُّكْرِ لربِّه سبحانه وتعالى، فقد علَّمنا ختم الصلاة بالقول: "الَّلهُمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادَتِكَ" [رواه أبو داود والنَّسائيُّ]، وفي الحديث الصَّحيح المُتَّفَقُ عليه المرفوع للسَّيِّدة عائشةٍ "رَضِيَ اللهُ عنها" أنَّها عندما سألت الرَّسولَ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، وقد كان يقومُ الَّليلَ، ويُصلِّي للهِ ربِّ العالمين حتى تتشقَّقَ قدماه مِن طول الصَّلاة والقيام؛: لِمَ تصنع هذا يا رسولَ اللهِ، وقد غَفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّم مِن ذنبِكَ وما تأخَّر؟!، فيردُّ عليها النَّبيُّ "عليه الصَّلاة والسَّلام": "أفلا أكونُ عبدًا شَكُورًا".

حِفْظُ الِّلسان:

المقصود بحفظ الِّلسان، هو ألا يتحدث الإنسانُ إلا بخيرٍ، ويبتعدُ عن قبيحِ الكلام، وعن الغَيبة والنَّميمة والفاحِشِ مِن القولِ، وغير ذلك، والإنسان مسئولٌ عن كلِّ لفظٍ يخرجُ مِن فمه؛ حيث تسجِّلُه ملائكةُ اللهِ سُبحانَه ويُحاسبه الخالق عزَّ وجلَّ عليه.. يقول اللهُ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾ [سُورة "ق"].

وفي الهدي النَّبويِّ يقول رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاء كُلَّها تُكَفِّر الِّلسان (تَذلُّ له وتخضعُ) تقول: اتَّقِ اللهَ فينا فإنَّما نحنُ بِكَ فإن استقمتَ استقمنا، وإنْ اعوَجَجْتَ اعوَجَجْنَا" [رواه التِّرمذيُّ]. وقال أيضا "عليه الصَّلاة والسَّلام": "لا يستقيمُ إيمانُ عَبْدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه" [رواه أحمد في المسندٍ].

ومن ضوابط الكلام وحِفظِ الِّلسان؛ ألا يتكلَّمُ الإنسان إلا لينفعَ بكلامِه؛ نفسَه أو غيرَه، أو ليدفع ضُرَّا عنه أو عن غيرِه، وأنْ يتخيَّر الوقتَ المُناسب للكلام، وكما قِيل: لكلِّ مقامٍ مقالٌ، ومَن تحدَّث حيث لا يحسن الكلام كان عرضةً للخطأ والزَّلَل، ومَن صَمَتَ حيث لا يجب الصَّمْتُ استثقل الناس الجلوس إليه، وأنْ يقتصِرَ مِن الكلام على ما يُحقِّقُ الغاية أو الهدف،

العِفَّة:


العِفَّة بشكلٍ عامٍّ، هي الابتعاد عن الحرام وسؤال النَّاسِ، وهي ليست قاصرةً على المعنى المُتعارف عليه من أنَّها كَفُّ الفَرْجِ عن الحرام، ولكن العِفَّة لها أنواعٌ عديدةٌ؛ فهناك عِفَّةُ الجوارح، والتي تعني أنْ يَعِفَّ المسلمُ كل أعضائه؛ يده ورجله وعينه وأذنه وفرجه عن الحرام؛ فلا تغلبه شهواته أو رغباته التي تُخالِفُ تعاليم اللهِ تعالى.

وقد أَمَرَ اللهُ كلَّ مُسْلِمٍ أنْ يَعِفَّ نفسَه ويحفظُ فَرْجَه حتى يتيسَّر له الزَّواج.. قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [سُورة النُّور- مِن الآية 33]، وكذلك حثَّ النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" الشَّبابَ على الزَّواج طلبًا للعِفَّةِ، وأرشد مَن لا يتيسَّر له الزَّواج أنْ يستعينَ بالصَّوم والعبادة، حتى يغضَّ بصرَه ويُحْصِنُ فَرْجَهُ، فقال "عليه الصَّلاة والسَّلام" في الحديث الصَّحيح المُتَّفَقُ عليه: "يا معشرَ الشَّباب مَن استطاع منكم البَاءة (أداءُ حقوقِ الزَّوجيَّة) فليتزوَّج فإنَّه أغضُّ للبصرِ وأحصنُ للفَرْجِ ومَن لَّم يستَطِع فعليه بالصَّوم فإنَّه له وِجَاء (وقايةٌ)".

وهناك أيضًا عِفَّةِ الِّلسان عن الفاحش من القول، وهناك عِفَّةُ اليَدِ عن كلِّ شيءٍ حَرام، وعِفَّة الجسد بستره والابتعاد عن إظهار عوراته.

التَّواضُع:

التَّواضُع يعني عدم التَّعالي وعدم التَّكبُّر على أحدٍ مِن النَّاس، ويعني أنَّه على المُسلم أنْ يحترمَ الجميع، مهما كانوا فقراءَ أو ضعفاءَ أو أقلَّ منزلةٍ منه، وقد أمرنا اللهُ سبحانه وتعالى بالتَّواضُع، فقال في سُورة "الشُّعراء": ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾، أي تواضعَ للنَّاس جميعًا. وقال تعالى أيضًا في سُورة "القَصَصِ": ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾.

وللتَّواضُع معنىً آخر، وهو الخضوع
للحقِّ، حتى ولو كان مِمَّن هو أقلُّ شأنًا منك، فيقول الفُضَيْلُ بن عياض لمَّا سُئِلَ عن التَّواضُع: التَّواضُع أنْ تخضعَ للحقِّ وتنقادُ إليه، ولو سمعتُه مِن صبيٍّ؛ قَبِلْتَهُ، ولو سَمِعْتَه مِن أجهلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ" ويقول أبو بكرٍ الصِّدِّيق "رَضِيَ اللهُ عنه": "لا يحْقِرَنَّ أحدٌ أحدًا مِن المسلمين، فإنَّ صغيرَ المسلمين عند اللهِ كبيرٌ".

وكان الرَّسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" نموذجَّا للتَّواضُع، فعندما خيَّرَهُ اللهُ تعالى ما بين أنْ يكونَ عبدًا رسولاً، أو مَلِكًا رسولاً؛ اختار النَّبيُّ "عليه الصَّلاة والسَّلام" أنْ يكون عبدًا رسولاً؛ تواضعًا منه.

العِزَّة:

العزة هي الرِّفعة والبُعد عن مواطن الذُّلِّ والمهانة، فاللهُ تعالى أَمَرَ المسلمين بالعِزَّة وعدم الذُّلِّ أو الخضوعِ لأحدٍ مِن البشر، وإنما يكون الخضوع لله تعالى وحدَهُ، وبالتالي يجبُ على المُسْلِم أنْ يعتزَّ بدينه وربِّه، ويطلب العزة في رضا اللهِ سبحانه وتعالى، ويقول الفاروق عمرَ "رَضِيَ اللهُ عنه": "كُنَّا أذلاء، فأعزَّنا اللهُ بالإسلام، فإنْ ابتغينا العزَّةَ في غيرِه أذلَّنا اللهُ".

والعِزَّة من صفات اللهِ تعالى، ويعطيها لمن يشاء ويمنعها عمَّن يشاء.. يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾ [سورة آل عمران]، ويقول أيضًا عزَّ مَن قائل، في سُورة "المُنافقون"، في الآية الثَّامنة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

ومِن عزَّةِ المُسلمِ ألا يكون مُستباحًا لكلِّ طامعٍ، أو يقع فريسةً لأصحاب الأهواء، وعليه أنْ يُدافِعَ عن مقاصده الخمسة التي نَزَلَتْ الشَّريعة لحمايتها؛ الدِّين والعقل والمال والنَّفس والعِرض.

السَّتر:

ويعني هنا أنْ يؤتَمَنَ المسلم على إخفاء ما يظهرُ من زَلات الناس وعيوبهم لديه، واللهُ تعالى سِتِّير يحبُّ السَّتر، ويسترُ عبادَهُ في الدُّنيا والآخرة، فيقول رسولُ اللهِ "صلَّى الله عليه وسلَّم" في الحديث الصَّحيح الذي رواه البُخاريُّ: "يدنو أحدُكُم مِن ربِّه فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرِّرُه، ثُمَّ يقول: إنِّي سترتُ عليكَ في الدُّنيا، وأنا أغفرها لَكَ اليوم"، وقال "عليه الصَّلاة والسَّلام" أيضًا: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حَيِيٌّ ستِّيرٌ يُحبُّ الحياء والسَّتْرَ" [رواه أبو داود والنَّسائي وأحمد].

ومِن السَّتْرِ الذي أومِرَ به المسلم ستر عورته، وذلك مِن صفاتِ المؤمنين.. يقول الله تعالى في سورة "المؤمنون": ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)﴾، وعندما سُئِلَ النَّبيَّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": يا رسولَ الله، عوراتنا ما نأتي وما نذر؟. قال "عليه الصَّلاة والسَّلام": "احفظ عورَتِكَ إلا مِن زوجك أو ما ملكَتْ يمينُكَ" .قال السَّائلُ: يا نبيَّ اللهِ، إذا كان القوم بعضهم في بعضٍ؟. قال النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "إنْ استطعتَ أن لَّا يراها أحدٌ، فلا يرينَّها". قال السَّائل: إذا كان أحدُنا خاليًا؟. قال: "فاللهُ أحقُّ أنْ يُستحيا منه مِن النَّاس" [رواه أبوداوود والتِّرمذيُّ وابن ماجة].

الكِتمان:

الكِتمان هو حفظُ الأسرار، وإخفاء ما لا يجب أنْ يعرِفَهُ النَّاسُ مِن الأمور الخاصَّة، وهو أنواعٌ، ومن بينها كِتمان السِّرِّ؛ حيث يجب على المُسلم أنْ يحتَفِظَ بالسِّرِّ سواءٍ أكان هذا السِّرِّ خاصًّا به أم أنَّه يتَّصِلُ بشخصٍ آخر ائتمنه عليه، وذلك دليلُ على الأمانة، ويجعل الإنسان المسلم مَوثوقًا به من جانب المسلمين وعموم النَّاسِ.

ومن بين الهديِ النَّبويِّ في هذا المُقام، قال "صلَّى الله عليه وسلَّم": "إذا حدَّث الرَّجلُ الحديثَ ثُمَّ التفت فهي أمانةٌ" [رواه التِّرمذيُّ]، وكان الرَّسولُ "صلَّى الله عليه وسلَّم" إذا أراد الخروج لغزوةٍ؛ فإنَّه كان لا يخبرُ أحدًا بوقتها ولا بمكانها حتى يجهِّزُ الجَيْشَ ويستعدُ للقتالِ.

الشَّجاعة:

وتعني جُرأة القَلْبِ وقُوَّةِ النَّفسِ عند مُواجهة الأمور الصَّعبة أو المواقف المفاجئة، وكان الرسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم" نموذجًا في الشَّجاعة، فكان الصَّحابة رضوان اللهِ تعالى عليهم يحتمون خلف ظهرِ النبيِّ "عليه الصَّلاة والسَّلام" في وقت شدَّةِ القتال، وفي هذا يقول عليٌّ بن أبي طالبٍ "رَضِيَ اللهُ عنه": كُنَّا إذا اشتدَّتْ البأساء (الحربُ) احتمينا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما يكون أحدٌ مِنَّا أقربُ إلى العدوِّ مِنه، ويقول البراء "رَضِيَ اللهُ عنه": "ولقد كُنَّا إذا حَمِيَ البأسُ نتَّقي بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّ الشُّجاع الذي يُحاذيَ به.

العَفو:

العَفو هو التَّجاوز عن الذَّنب والخطأ، وتَرْكُ العِقاب عليه مع القدرة على ذلك، والعفو من صفات اللهِ عزَّ وجلَّ، ومن بين دعاء النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "الَّلهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ كريمٌ تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي" [رواه التِّرمذيُّ]، وكان مِن بين سِمات عفوه "صلَّى الله عليه وسلَّم"، كما تروي أمُّ المؤمنين عائشةٌ رَضِيَ اللهُ تعالى عنها، فيما رواه عنها الإمام مسلمٌ في صحيحه، أنَّه "عليه الصَّلاة والسَّلام" ما ضَرَبَ شيئًا قَطٌّ بيده ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أنْ يُجاهِدَ في سبيل اللهِ.

العمل:

وقيمة العمل ليست محلَّ نقاشٍ أو جدلٍ، وللعمل معانٍ ومجالاتٍ كثيرةٍ؛ فالمصطلح يشمل عمل الدُّنيا والآخرة، وعمل الآخرة يشمل طاعةَ اللهِ وعبادته وكل ما يشمل التَّقرُّب إليه عزَّ وجلَّ، واللهُ تعالى يقول: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [سورة آل عِمران- مِن الآية 195].

وعن أفضل الأعمال يقولُ الرَّسولُ الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم"، عندما سُئِلَ أيُّ الأعمال أفضل؟، قال: "إيمانٌ باللهِ ورسولِه". قيل: ثُمَّ ماذا؟. قال: "جهادٌ في سبيلِ اللهِ". قيل: ثُمَّ ماذا؟. قال: "حَجٌّ مبرورٌ" [رواه البُخاريُّ].

وفيما يخصُّ عمل الدُّنيا؛ فإنَّ مصطلح العمل هنا يُشيرُ إلى كلِّ سعيٍ دُنيويٍّ مشروعٍ، ويشمل ذلك كلَّ الأعمال من حِرَفٍ وصناعة وزراعةٍ وغير ذلك، وقد سُئِلَ الرَّسولُ الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ الكسبِ أفضل؟. قال: "عَمَلُ الرَّجُلِ بيده" [رواه الحاكم].

وعلى كل مسلم أن يؤدي ما عليه من عملٍ بجد وإتقان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بإحسان العمل وإتقانه، كذلك فإن الطالب عليه أن يجتهد في مذاكرته؛ لأنها عمله المكلف به؛ فيجب عليه أن يؤديه على خير وجه، حتى يحصل على النجاح والتفوق.

الرَّحمة:

وتعني الرِّقة والعطفِ والمغفرةِ، والمسلم الصَّحيح يجب أنْ يكونَ رحيمَ القلبِ، يُغيثُ الملهوف ويصنع المعروف ويعاون المحتاجين ويعطف على الفقراء والمحرومين، والرَّحمة عظَّمها اللهُ تعالى بكتابته لها على نفسه، وهي من بين صِفاته الحُسنى.. قال تعالى: ﴿﴾

يقول الله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [سورة الأنعام- مِن الآية 54]، ويقول اللهُ تعالى عن نفسه في كتابه العزيز: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سُورة يُوسُف- مِن الآية 64]، وفي الهدي النَّبويِّ يقولُ النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "لمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ عِنده فوق عرشِه: إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي" [مُتَّفَقٌ عليه].


ويصف الله تعالى رحمته بأنَّها وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، فيقول في سُورة "الأعرافُ": ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)﴾، ويقولُ النَّبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم": "جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ مائةَ جزءٍ، فأمْسَكَ تسعةً وتسعين وأنْزَلَ في الأرضِ جُزءًا واحدًا فمِن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفعَ الدَّابَّةَ حافِرَها عن ولدِها خشية أنْ تصيبَه" [مُتَّفَقٌ عليه].

والرَّسول "صلَّى الله عليه وسلَّم" كان مثالاً للرَّحمةِ، ولقد منحه الله تعالى من بين صفاته وأسمائه الحسنى صفتَيْن متلازمتَيْن؛ وهُما الرَّأفة والرَّحمة.. قال تعالى في سُورة "التَّوْبة": ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)﴾.

الأمل:

الأمل هو انشراحُ النَّفسِ في وقتِ الضِّيق والأزمات، والتَّطلُّع دائمًا، مع الأخذ بالأسباب، إلى تحقيق النَّتائج الأفضل في نهاية أيِّ عملٍ يقوم به الإنسان، ومن بين ذلك أنْ ينتظرَ المرء الفرج واليسر بعد العسر، وأهمِّيَّة الأمل تنبع مِن أنَّه تعبيرٌ عن حسن ظنِّ الإنسان المسلم وإيمانه بالله عزَّ وجلَّ، كما أنَّ الأمل يكون هو الحافز الأساسيِّ للإنسان على الاجتهاد فيما يعمل والتَّطلُّع إلى إنجازه والنجاحِ فيه.

وتبرز معالمِ مسألة ثقة الإنسان في ربِّه عند الرَّسولِ الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ حيث كان دائمًا واثقًا في نصرِ اللهِ تعالى له، ومِن بين ذلك ردُّه على أبي بكرٍ الصِّدِّيق "رَضِيَ اللهُ عنه"، أثناء وجودهما في غار "ثَورٍ" خلال مُطاردة المشركين لهما في رحلة الهجرة مِن مكَّةَ إلى المدينةِ؛ حيث قال اللهُ تعالى في كتابه العزيز على لسان نبيِّه "عليه الصَّلاة والسَّلام": ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [سورة التَّوْبة- من الآية 20].

التَّأنِّي:

التَّأني هو التَّثَبُّت والتَّمَهُّل وعدم التَّعجُّل، والمسلمُ يجب عليه أنْ يحرِصُ على التَّأنِّي والتَّمهُّل في أُمورِهِ كلِّها، وفي عمله يجب عليه أنْ يؤدِّيَه بتأنٍّ وإخلاصٍ وإتقانٍ، وقد قال الإمامُ عليٌّ "رَضِيَ اللهُ عنه": لا تطلب سرعةَ العمل، واطلب تجويدَه، فإنَّ النَّاس لا يسألون في كَمْ فَرَغَ، وإنَّما ينظرون إلى إتقانه وجودته.

والطَّالب بدوره يجب عليه أنْ يتأنى في مُذاكرته، ويفهم دروسه جيِّدًا، وقد قال بعض الحُكماء في ذلك: مَن أسرع في الجواب حاد عن الصَّواب. وقال بعضهم أيضًا: مَن تأنَّى نالَ ما تمنَّى.

وفي الجملة، فقد دعا الإسلام إلى الأخذِ بمكارم الأخلاق، وتبقى المُهمَّةُ على عاتقِ المُربِّين والدُّعاة وأولياء الأمور والإعلاميِّين من أجل تنشئة الأجيال الجديدة على أساس هذه الأخلاقيَّات والقِيَمِ.