المنهج الوصفي :

ظهرت في أوروبا بوادرُ المنهج الوصفي الذي أرسى أساسه "دي
سوسور" , حيث يعود إليه الفضل في بيان هذا المنهج وإظهار منافعه في الدرس
اللغوي , فالمنهج الوصفي يُعنى بوصف اللغة من حيث هي تنظيمٌ قائمٌ بذاته ,
ولذلك يرى "دي سوسور" : أنّ موضوع اللغة أو الدراسة اللغوية الوحيد
والحقيقي هو اللغة التي يُنظر إليها كواقع ٍ قائم ٍ بذاته ويبحثُ فيها
لذاتها , وبذلك ابتعد عن النظر في اللغات من وجهة النظر التاريخية أو
المقارنة , مؤكداً وصف اللغة في فترةٍ زمنية محددة لنصل من هذا الوصف إلى
القواعد أو القوانين العامة التي تحكمها , أو نتوصّل إلى معرفة البنية أو
التركيب الهيكلي لها , ولذلك يُثار إلى المنهج الوصفي في علم اللغة بأنه
"علمٌ ساكن" ففيه توصف اللغة بوجهٍ عام على الصورة التي توجد عليها في
نقطةٍ زمنيةٍ معينة , ليس ضرورياً أن تكون في الزمن الحاضر .

وللمنهج الوصفي أُسسٌ عامة تتوزعها أفكارٌ تنظيمية للمنهج ,
وقواعد عملية في التحليل منها : أنّ الوصف لأيّ لغة ينبغي أنْ يبدأ من
الصورة المنطوقة إلى الصورة المكتوبة والعكس خلاف ذلك باعتبار أنّ اللغة
لها وجهان : وجه الكلام وهو الذي تنصرفُ إليه الوصفية بأهميةٍ خاصة , ووجه
الكتابة , فالأولى هي المادة الخام لعملية التحليل اللغوي , والأخرى هي
الصورة أو الشكل لهذا التحليل.

ويتّخذ ُ الوصف ثلاثة طرق متكاملة في تحليل الظاهرة اللغوية وُصولاً منه إلى تقعيدها وهي :

- استقراء المادة اللغوية مشافهة .

- تقسيمها أقساماً وتسمية كلّ قسم ٍ منها .

- وضع المصطلحات الدالّة على هذه الأقسام . وذلك لنصلَ إلى
وضع القواعد الكلية والجزئية التي نتجت عن الاستقراء . فالبدء بالاستقراء
وتسجيل الظواهر من أهم ّ الأسس التي يعتمد عليها الوصف بخلاف المعيار الذي
يبدأ بالتقعيد .

إنّ مجال بحث عالم اللغة الوصفي يتمثّلُ في حقل اللغات
الحيّة , حيثُ يمكنُ تزويد الباحث بأحد أبناء اللغة الذين يتكلّمون بها ,
وهو الذي يُعرفُ فنّياً باسم الراوي اللغوي (Informant) .

ومن الأعمال اللغوية التي أفاد منها المنهج الوصفي ما
يُدعى بـ (الأطلس اللغوي) وهو بمثابة مرشدٍ إلى اللهجات الحيّة للغةٍ ما ,
وتتوفر فيه معلوماتٌ عن الصيغ الحيّة للغةِ أيّ بلد وخصائصها اللهجية .

ويُرسَلُ جامعو هذه الأطاليس عادةً إلى الأماكن التي يقعُ
عليها الاختيار من بلدٍ ما لعمل الخرائط المطلوبة , ولا بدّ لهم من
الاستعانة براو ٍ يُمثّلُ المتكلّمين المحليين . - هذه بشكلٍ بسيط - بعض
الأصول الأوّلية للمنهج الوصفي . ولكنّ السؤال الذي يجبُ أن يُطرح : هلْ
بدأ النحو العربي وصفياً أم معيارياً ؟ , وما هي الأسس التي يُمكن الاعتماد
عليها في بيان بدء الدراسات اللغوية في العربية وكيف بدأت لنصلَ إلى إثبات
أو نفي الوصفية عنها ؟ .

يُمكن أن نحصُر الإجابة بما يلي :

- اتصال أوليات النحو العربي بالواقع اللغوي اتصالاً مباشراً ,
والواقع اللغوي هو الاستعمال , والاستعمال من أهمّ الركائز للمنهج الوصفي ,
لأنّ الوصف قرينة الاستعمال , ولا يُتصوّر وصف للغةٍ ما من غير نظرٍ في
استعمالها الواقعي , والاتصال المباشر بالواقع اللغوي أصلٌ من أصول النحو
الحقيقي , وقد كان أيضاً أصلاً من أصول النحو العربي نتيجة ً لطبيعة الحياة
العربية وطبيعة الحركة العلميّة التي نشأت في مناخ ٍ عام أساسُه النقل
والرواية . وقد أدّى هذا الاتصال إلى أن يكون في النحو اتجاه وصفي في تناول
كثير ٍ من ظواهر اللغة . ومن أمثلة الاتصال بالواقع اللغوي تلقـــّي
النصوص من أفواهٍ الرواة ومشافهة الأعراب والنقل عنهم مما مهّد إلى استقراء
اللغة واستنباط القواعد نتيجةً لهذا الاستقراء , ومن ثمّ رأينا الدراسات
العربية تتّسم بالوصف وتتأتّى إلى حدٍّ كبير عن المعيار . فالبادية كانت من
أهمّ المصادر للدراسات اللغوية المبكّرة وقد درج النّحاة واللغويّون
الأوائل على النقل المباشر من البادية أو غير المباشر من أفواه الأعراب
الوافدين إلى المدن والأمصار .

- إنّ منهج البحث في مدرسة الكوفة التقليدية في بداية نشأتها
كان أقرب إلى المنهج الوصفي باعتماد الكوفيين أساساً على المسموع وبخاصّة
النصوص , وعدم إخضاعها كلّيةً إلى القواعد , بل استنباط القواعد منها
وتوجيههم نصوص القرآن واللغة والأدب هذا المنحى من المنهج وعدم تعويلهم
الكبير على التأويلات البعيدة المتكلّفة , وابتعادهم عن إخضاع الدّرس
اللغوي عن روح المنطق البحت .

- تناول الظاهرة اللغوية على أساس ٍ شكلي , وليس على أساس ٍ
معنوي , والشكل هو الظاهر والمنهج الوصفي يُعنى بالظاهر أكثر من عنايته بما
هو خلاف ذلك . فالنّحاة الأوائل كانوا يتناولون الظواهر اللغوية على أساس ٍ
شكلي وهو مبدأ من مبادئ النحو الوصفي .

نستنتج ممّا تقدّم أنّ الدراسات اللغوية في العربية قد بدأت
وصفيّةً في كثيرٍ من أصولها ثمّ انتهت في الفترات المتأخرة ( لاسيّما بعد
القرون الهجرية الأربعة ) انتهت إلى المعيارية , وهي في شطرها الأول عوّلت
على استقراء المادة اللغوية من مصادرها الأصلية ( السماع , المشافهة ) ,
ثمّ استنبطت منها القواعد الكلّيّة والجزئيّة , أي جعلت القاعدة خاضعةً
للاستقراء وليس العكس . أمّا في شطرها الثاني فقد أخذت بالقواعد التي انتهت
إليها وأخضعت لها المادة اللغوية القديمة والمستجدّة .

وتوقّفت في استقرائها عند عصر ٍ اصطلح عليه بعصر الاستشهاد
الذي يُعتبر قدحاً كبيراً في تاريخ الدراسات اللغوية العربية , فانقلب
الميزان من الوصف إلى المعيار , ومن إخضاع القاعدة إلى إخضاع المادة
اللغوية , من استمرارية الاستقراء , والأخذ إلى التوقّف عنهما . ولذلك
وُجّهت بعض الانتقادات إلى منهج النّحاة واللغويين , فيما بعد ومن أبرز هذه
الانتقادات ما أقدم عليه ( ابن مضاء ) في كتابه ( الرد على النّحاة ) الذي
دعا فيه إلى إلغاء بعض الأصول الأساسية في المنهج النحوي التقليدي كالعلل
والعوامل والتقديرات .

المنهج المعياري :

المنهج المعياري بخلاف المنهج الوصفي , قائمٌ على فرض
القاعدة أي يبدأ بالكلّيات وينتهي بالجزئيات , والمنهج المعياري يعتمد
القاعدة أساساً وينْأى عن الوصف , ويتأوّل لما خرج عن القواعد التي يصوغُها
بإحكام شتى التأويلات أو يحكم عليها بالشذوذ والقلّة إنْ لمْ يجد فيها
تأويلاً مناسباً ولو كان بعيداً أو مستغرباً .

وعُرفت المعيارية في الدراسات اللغوية الأوروبية واستخدم
لها عبارة اللغة المعيارية ( Standard Language) , أو عبارة المعياري حينما
تُوصف اللغة أو النّحو أو القواعد عامة .

وتكون اللغة المعيارية في أوّل أمرها لهجةً ً من لهجات لغة
ٍ ما ثمّ ترقى إلى مستوى التقليد والمحاكاة وتتخذ ُ لها صفة رسمية لذلك
قيلَ في تعريفها وبيان أسباب نشأتها : أنّ اللغة المعيارية هي ذلك المستوى
الكلامي الذي له صفة ٌ رسميّة والذي يستعمله المتعلّمون تعليماً راقياً .

وغالباً ما تكون اللغة المعيارية في أوّل الأمر لهجةً محلّية ,
تنالُ شيئاً من التمجيد أو التقدير ويُعترفُ بها كلغةٍ رسمية ٍ لسببٍ من
الأسباب .

فالمعيارية بهذا المفهوم هي اللهجة المفضّلة التي تُتّخذ
مقياساً للبلاغة والفصاحة كتفضيل لهجة قريش في الدراسات العربية التقليدية
على سائر اللهجات العربية الأخرى لأسبابٍ دينية وسياسية . ثمّ تكون هذه
اللهجة نواةً للمنهج المعياري , وتتخذ ُ قواعدها معياراً للصحة والخطأ كما
هو واضح ٌ في تاريخ العربية . ولذلك فقد نشأ النحو العربي نشأةً وصفيّة
باعتماد الاستقراء ولكنّه جنح صوْب المعيارية بعد أن وضعوا القواعد والأصول
وتوقّفوا عن استقراء المادة اللغوية المستجدّة فبرزت اللغة الرسمية
ممثّلةً بهذا واعتبرت مقاييسه وقواعده فيْصلاً في الصحـة والخطــأ .

ولمّا كان الهدف منصبّاً في الغالب على تعليم الناشئة وغيرهم
من المثقفين والمتخصّصين رأيناهم يتّجهون بالنحو وِجهة تعليميّة ,
والتعليميّة أداةٌ معيارية , إذ بواسطتها يُمكن المحافظة على المستوى
الصوابي لمعيارية اللغة . ثمّ تسرّب هذا المنهج شيئاً فشيئاً إلى الدرس
اللغوي على مستوى التخصص البحت .

إنّ العناية التي نشأ النحو العربيّ من أجلها وهي ضبط اللغة
وإيجاد الأداة التي تعصمُ اللاحنين من الخطأ فرضت على هذا النحو أن يتّسم
في جملته بسمة النحو التعليميّ لا النحو العلميّ , أو بعبارةٍ أخرى أن
يكونَ في عمومه نحواً معيارياً لا نحواً وصفيّاً .

ولم يكن الغرض التعليمي سبباً وحيداً في معيارية النحو
العربي بل هناك أسبابٌ أخرى من أهمها تأثّر النحو العربي بالمنطق , والمنطق
الذي نعنيه هو منطق " أرسطو " الذي قال كثيرٌ من الباحثين بتأثيره في بعض
الاتجاهات في الدراسة العربية القديمة ومنها الدراسات اللغوية . وهذا
المنطق يُعنى بالصورة أكثر من عنايته بالمادة . ودرس اللغة ينبغي أن يركّز
على المادة لا على الصورة , وتأثير المنطق على النحو يُبعده عن درس الواقع
اللغوي كما هو . وعناية المنطق الأرسطي بالصورة أو الشكل جاءت نتيجةً
لاهتمامه بالطبيعة الثابتة أو (الأنواع) من حيث ماهياتها الأزليّة , ونرى
أنّ تعريف الأشياء وفقاً لهذا المفهوم قد تأثّر به النحو العربي من حيث
تعريف الكلّيات النحوية كأبواب الاسم والفعل والحرف والمبتدأ والخبر .....
وكانت المعيارية نتيجةً لمقدّمةٍ منطقيةٍ أرسطيّة هي النظرة إلى الطبيعة
بما فيها من أنواع وأشياء نظرة ثابتة لا تتغيّر .

ومن آثار المنطق في الدرس اللغوي عند العرب هو القول بالقياس
والبرهان والعلل . وقد شُغل النّحاة ولاسيّما في القرن الرابع الهجري وما
تلاه بهذه المبادئ واعتبروها أصولاً للنحو . حتى أنّ الزجاجي ردّ على الذين
اتبعوا سيبويه في تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف تقليداً من برهان ولا
حجّة .

ومن القضايا التي قد يُحسب أنّ لها علاقة بالصواب المطلق
قضيتان مرتبطتان بالمنهج الوصفي أُثير حولهما الجدل والنقاش ووجّه بهما
القدح والنقد إلى هذا المنهج وهما : المستوى الصّوابي والصّوغ القياسي .

أمّا المستوى الصّوابي فيفترض من حيث الشكل معياراً لغوياً
للصواب المطلق في اللغة ولكنّه في حقيقته غير ذلك فهو ينظرُ إلى الصّواب
باعتباره مقياساً يفرضه المجتمع اللغوي الواحد فهو معيارٌ لغويٌ يرضى عن
الصّواب ويرفضُ الخطأ في استعمال الصّواب والخطأ اللغويين لايمكن للمستوى
الصّوابي أن يحدّدهما باعتباره فكرة يستعين بها الباحث على ذلك . وإنّما هو
مقياسٌ اجتماعي يفرضه المجتمع اللغوي على الأفراد ويرجع الأفراد إليه عند
الاحتكام في الاستعمال .

أمّا ظاهرة الصّوغ القياسي فهي مقدرة خاصة اكتسابية يكتسبها
الفرد في طُفولته ولها علاقة وطيدة بالمجتمع اللغوي الذي يعيش فيه , ووفقاً
لها تحصل لديه ملَكة قياس صيغ لم يسمعها على صيغ ٍ قد سمعها , ومن مظاهر
المنهج المعياري في الدرس اللغوي القديم :

- الأخذ من بعض القبائل واللهجات وترك قبائل ولهجاتٍ أخرى .

- إدخال بعض المناهج التي عرفت التقسيم والتحديد على البحث اللغوي مثل منهج علوم الحديث .

- وكذلك تقسيم الكلام إلى مطّرد وشاذ , وأيضاً التقدير والافتراض.