1- مناهج البحث التربوي: المدخل المفاهيمي.
يمكن تعريف العلم على ضوء موضوعه، هدفه، و منهجه.
موضوع العلم: كل ما يثير اهتمام الإنسان هو موضوعا قابلا للدراسة العلمية. باختلاف المواضيع تختلف الإجراءات المنهجية المتبعة من طرف الباحث. قد يكون موضوع البحث العلمي مرتبطا بدراسة الإنسان من حيث أنه كائن بيولوجي، أو من حيث أنه كائن بيو/إجتماعي، خاضع لحتمية القوانين الطبيعية و نسبية القوانين المعيارية المختلفة بين الثقافات. قد تدرس هذه الثنائية الحرجة لدى الإنسان بين الحتمية و الحرية من خلال دراسات سلوكية بحثا عن القوانين السايكولوجية المفسرة للسلوك التعلمي، مثلا، أو غيرها من السلوكات، إن كانت الدراسة أساسية، و إن كانت تطبيقية فيكون الهدف حينها البحث عن سبل التأثير على سلوكه، سواء للعلاج أو بغرض إعادة التربية أو الإقناع القسري و تغيير الإتجاهات و المواقف تجاه قضايا الساعة أو غيرها من المشاريع.
و قد يكون موضوع البحث العلمي مرتبطا بالمحيط الحسي للفرد (مواضيع علوم الطبيعة و الحياة)، أو يكون الموضوع مرتبطا بمحيطه المعنوي (العلوم الإنسانية أو العلوم الدقيقة)، و قد يكون موضوع البحث العلمي مرتبطا بمحيط الفرد الحس/معنوي (دراسة الظاهرة الإجتماعية او البحث عن سبل ترشيد العمل الإجتماعي).
هدف العلم (الفائدة أو الدافع بالنسبة لأي باحث) يكون في حدود الإمكان حسي كالتأثير الملموس على الأفراد أو محيطهم و تستند على نظرية أو مظريات لتحقيق ذلك، و في تلك الحالة تنعت الدراسة أو ينعت البحث من ذلك النوع بأنه بحث تطبيقي.
أما إذا كانت الفائدة معنوية (الحصول على المعرفة و إزالة الغموض)، فتنعت الدراسة حينها بأنها دراسة أساسية.
قد تهدف الدراسة، في حدود الاحتمال، إلى إشباع حاجة حسية و معنوية معا. في تلك الحالة تسمى الدراسة دراسة إجرائية، أو تقويمية إصلاحية أو دراسات الفعل بالمشاركة( –action research-). تكون الفائدة في هذا النوع من الدراسات، أساسا، تحقيق ذات الباحث في محيط متغير باستمرار(عمل من خلال العلم و علم من خلال العمل في علاقة جدلية مستمرة).
منهج العلم:
يختلف باختلاف المواضيع و الأهداف و لكن رغم هذا الاختلاف يوجد قاسم مشترك بين تلك المناهج مجتمعة يجعل منها، رغم اختلاف خطواتها، إجراءاتها، تقنياتها و أدواتها، مناهج توصف بأنها "علمية" و هذا القاسم المشترك هو العقل. و نعني بالعقل عملية الربط المنطقي بين الحقائق المعلومة قصد الكشف عن الحقائق المجهولة أو التأثير على الواقع أو كلا الهدفين معا.
يمكننا القول أن المنهج العلمي بمعناه الواسع هو المنطق سواء كان صوريا (النظرية العقلانية للمعرفة)، أو واقعيا (النظرية الامبيريقية للمعرفة). و قد يكون المنهج العلمي بمعناه الواسع هو المنطق الجدلي (المنهج التجريبي مثلا عبارة عن منطق جدلي حيث يكون الطرح في البحث التجريبي هو التنظير للموضوع و صياغة الفروض و نقيض الطرح هو تجريب مدى صحة تلك الفروض على ضوء حقائق الواقع الملموس، و التركيب هو خلاصة الدراسة ككل). منهج الدراسة الإجرائية كذلك هو منهج يستند على المنطق الجدلي حيث يكون الطرح فيه حسيا بالمشاركة، تطبيقا للنظرية، و نقيض الطرح هو المعرفة المكتسبة من الخبرة الميدانية، إثباتا للنظرية أو تصحيح لها، و التركيب هو الإنسان الباحث المتجدد و العارف باستمرار).
الاستدلال المنطقي قد يكون استدلالا بالنظرية لتبرير نمط التطبيق الميداني لأي دراسة تطبيقية (منهج استنباطي أو استنتاجي) و هو عبارة عن انتقال من الكل إلى الجزء. و قد يكون نمط الاستدلال في البحث استقرائيا إذا كان الباحث يستند على معطيات جزئية، عينة من الواقع، تمكنه من التعميم و الكشف عن القانون المفسر للظاهرة التي يدرس (الدراسة من هذا النوع تكون دراسة أساسية). و قد يكون الاستدلال المنطقي جدليا إذا استند الباحث على كلا النمطين من الاستدلال المذكورين أعلاه (دراسات إجرائية أو تقويمية).
علم التربية و علوم التربية:
التربية لفظ مشتق من الفعل الثلاثي ربى يربو، أي نمى ينمو، و هو لفظ على صيغة تفعلة. التربية عبارة بصيغة تفعلة و تعني في مدلولها اللغوي، تنمية. التنمية قد تكون تنمية للفرد و قد تكون تنمية للمجتمع، و هي تختلف عن مفهوم التنشئة لأن التنشئة قد تكون إيجابية و قد تكون سلبية (انحراف عما يجب أن يكون) في حين أن التربية تشير دائما، في مدلولها اللغوي، إلى الزيادة، و عليه يمكننا القول أن التنشئة أشمل من التربية.
التربية، إن كانت تخص الفرد، فهي نتاج تفاعل و تكيف هذا الأخير مع محيطه الاجتماعي و المادي، و التكيف حالة صحية، و هي زيادة فيما هو مرغوب فيه و ليست نقصانا. إن كانت التربية تخص المجتمع فتقدير ما هو ايجابي و بالتالي تنموي، يختلف باختلاف الثقافات و التطلعات، و لكل أمة شرعة و منهاجا.
و مدلول لفظ التربية من حيث أنه مصطلح يختلف وفق سياقات الكلام و يستدعي التمييز بين التربية المقصودة أو النظامية (ضمن المنظومة التربوية) و التربية الغير مقصودة داخل مؤسسات إجتماعية غير مختصة أو في الطبيعة.
علم التربية هو العلم المحيط بكيفية تحقيق تلك التنمية. هو علم تطبيقي لأنه يهدف إلى التأثير الملموس على واقع محسوس. علم التربية هو البيداغوجيا، هو علم بالطرق و الوسائل التي يستند عليها المربي كي يحقق أهدافه التربوية.
علوم التربية هي كل العلوم التي تستند عليها التربية النظامية سواء كانت أساسية أو علوم تطبيقية أو دراسات إجرائية.
التربية، كما أشرنا إليه أعلاه، أنواع يمكن تصنيفها إلى تربية مقصودة منظمة تتم داخل مؤسسات اجتماعية مختصة و تربية غير مقصودة كتلك التي تتم داخل المؤسسة الأسرية وفق حقائق فطرية غريزية، أو أحيانا و ليس دائما مكتسبة من طرف الأبوين.
التربية التي نقصدها في تحليلنا لمفهوم علوم التربية هي التربية النظامية المقصودة من طرف المجتمع. و للتربية النظامية سمات تميزها عن التربية الغير نظامية. أبرز تلك السمات هي أنها تهدف إلى تحقيق أهداف معلومة و مقصودة وضعها المجتمع وصخر لها إمكانيات مادية و معنوية، غير أن تلك الأهداف تختلف من مجتمع لآخر وفق اختلاف ثقافات تلك المجتمعات. السمة الثانية البارزة التي تميز التربية النظامية عن التربية الغير نظامية هي أنها تقوم داخل مؤسسات اجتماعي مختصة. لأكي تحقق تلك المؤسسات أهدافها بفاعلية و نجاعة لا بد أن تكون مؤسسة على أسس صحيحة، سواء في صياغة أهدافها أو ترتيباتها التنظيمية الأخرى. البحث في الأهداف التربية حتى توضع على أسس صحيحة هو ميدان بحث فلسفي. أما قضية تكييف و تنظيم تلك المؤسسات الاجتماعية المختصة في التربية و التعليم فهي قضية مرتبطة بالبحث السوسيولوجي و البحث السايكولوجي كدراسات أساسية من شأنها تزويد رجال السياسة بالحقائق العلمية التي تبنى على ضوئها سياساتهم التربوية.
علوم التربية هي علوم أساسية كعلم النفس و علم الاجتماع و الفلسفة حيث أنها كلها تهيؤ الظروف المواتية للعمل التربوي و تزود منفذي السياسات التربوية بالمعارف النظرية الكفيلة بترشيد العمل التربوي، البيداغوجي للمعلم و الإداري.
علوم التربية ليست فقط علوم أساسية بل هي كذلك علوم تطبيقية كعلم التربية، أي البيداغوجيا، التخطيط التربوي، بناء المناهج، الإدارة و التسيير.
هي كل مناهج البحث الخاصة بميادين البحث التي أشرنا إليها في الفقرة أعلاه، سواء كانت ضمن دراسات أساسية أو دراسات تطبيقية أو كليهما معا.
الدراسات الأساسية تتفرع إلى دراسات وصفية و دراسات تفسيرية. ضمن الدراسات التفسيرية يبرز المنهج التجريبي، الذي كما اشرنا إليه سلفا، هو في الأساس منقط جدلي بغض النظر عن الإجرءات المنهجية المتباينة التي يمكن للباحث أن يقوم بها.
أما ضمن الدراسات التطبيقية فيبرز نمط من المنهج التجريبي المعروف بمقاربة حل المشكل حيث تقوم مرحلة تشخيص المشكل مقام الملاحظة في الدراسات الأساسية، و تقوم مرحلة صياغة الحلول البديلة مقام صياغة الفروض ضمن الدراسات الأساسية وفق المنهج التجريبي. الحلول البديلة المقترحة من طرف الباحث المطبق تحتاج إلى قياس لمدى نجاعتها قصد اختيار أنجعها، و هذا القياس يقوم مقام التجريب الذي هو الخطوة الأخيرة المتبعة ضمن المنهج التجريبي.