إن أهم نواحي التطور التكنولوجي تأثيرا في المجتمعات، هو ما يتصل بالتربية، وذلك لأن التربية تؤثر في حياة كل فرد في المجتمع، ولقد حدث فعلا أن تغلغلت التكنولوجيا في جميع نواحي الحياة، وغيرت الكثير منها، ولم يكن التغيير قاصرا على النواحي المادية فقط، بل لقد شمل التغيير معظم مؤسسات المجتمع، بالإضافة إلى أثره على الاتجاهات والقيم والأهداف، ثم على التوقعات بشكل أكبر، حتى أن التغيير شمل أهداف الأفراد في البقاء والاستمرار في الحياة نفسها، وإن إدراكنا لمدى تغلغل التكنولوجيا في جميع نواحي الحياة، وعلى معظم أفراده يؤثر ذلك إلى حد كبير على مدى إدراكنا لتغلغلها أيضا في التربية.
ولتوضيح ذلك ما نلاحظه في بعض المفاهيم العامة التي يتعامل معها جميع أفراد المجتمع، فبعض الخبرات التي كانت على مدى أجيال طويلة ماضية ترتبط بمفهوم معين واضح متفق عليه من المجتمع تغيرت تماما، بل إنها في أحيان كثيرة انقلبت إلى النقيض، فكانت هذه المفاهيم تبدو ثابتة ثم صارت متغيرة، فهي غدا غيرها اليوم، ومن المؤكد أن مفهوم الثبات قد انتفى عنها، فوسائل الاتصال مثلا ظلت ثابتة على مدى التاريخ القديم والمعروفة بلا تغير تقريبا، أما في خلال السبعين سنة الأخيرة فإن التغير شملها، وهذا التغير في وسائل المواصلات أدى إلى تغيير في وسائل الاتصال، ويمثل هذا التغيير نمطا سائدا للتغيير في جميع أوجه الحياة تقريبا، فقد كانت الصلة بين فرد وآخر صلة المواجهة الكلامية على مدى التاريخ القديم، ثم تطورت هذه الصلة في عصر التكنولوجيا، إلى استخدام التلغراف ثم الهاتف والراديو فالتلفاز ثم جاء دور الأقمار الصناعية وشبكة المعلومات العالمية " الأنترنات " حتى صرنا حاليا نشاهد الإنسان وهو يسير على سطح القمر، ويتجاذب أطراف الحديث مع زملائه في أي بقعة على سطح الأرض، أي ان التغيير هو العنصر السائد في المجتمعات المعاصرة.
والتربية عليها أن تعد الفرد القادر على الحياة في عالم متغير، وأن تدرس الماضي والتراث وتأخذ من الماضي العبرة والقدوة، لتوجد الإنسان القادر على مواجهة الحاضر بمستجداته، والتهيؤ للمستقبل دون الإخلال بالشخصية المستقلة التي تفرض نفسها على العالم، دون الذوبان في الشخصيات العالمية الأخرى وذلك بمشاركة الماضي بالحاضر والمستقبل، وإذا كان المعلم هو العنصر البشري الفعال في العملية التعليمية، وإن الطالب هو محور العملية التعليمية، فإن إعداد المعلم للقيام بهذه الوظيفة يجب أن يكون إعدادا إيجابيا، وأن نهيئ الظروف المناسبة لقيامه بها، لنضمن إلى حد كبير الوصول إلى أهداف التربية، بإدخال عنصر التغيير المناسب في المناهج والكتب المقررة، وبإدخال أسلوب التكنولوجيا وجعله أسلوبا في العملية التعليمية، وتدريب الطلبة على توظيفها واستخدامها للوصول إلى المعارف والحقائق التي يراها الطالب هامة له ولحياته المستقبلية، وتسهيل موضوع درسه في كتبه المقررة واكتساب المهارات الحياتية المناسبة ، وتحقيق الاتجاه المرغوب والقيم السليمة، وإعداده لحياة مستقبلية زاهرة وذلك تحقيقا لفلسفة التربية وأهدافها بأن الطالب هو محور العملية التعليمية التعلمية التربوية.
ونظرا للثورة التكنولوجية الحالية التي تواجه العالم العربي وبخاصة في ميدان التعليم، فإن العالم العربي يقف أمام تحديين:-
أولهما:- حاجته الملحة والمتزايدة إلى تقريب المسافة بشكل مضطرد بينه وبين الدول المتقدمة في هذا المجال.
ثانيهما:- إمكانات العالم العربي المادية والمالية والبشرية تقتصر حاليا عن بلوغ هذا الهدف.


ومن هنا كان على الدول العربية أن تفكر في أساليب تعليمية جديدة، تمكنها من الوصول إلى الاستخدام الأمثل لإمكاناتها، وتتيح لها اللحاق بركب العالم المتقدم في مجال التعليم، والاستفادة من التقنيات الحديثة والتقليدية على حد سواء، باعتبار التنمية البشرية الهدف الأول لهذه البلاد ولأن الدور الأساسي للبلاد العربية في هذه المرحلة ينبغي أن ينصب على إعداد الأطر العلمية والفنية والإدارية اللازمة لمرحلة ما قبل الإنتاج، ليستطيع الإنسان العربي أن يلتزم حيال ما تتطلبه عمليات التنمية الشاملة من بحث علمي، وتحضير تكنولوجي وتخطيط منهجي، وهذا يتطلب ضرورة الأخذ بتقنيات قادرة ومجدية وملائمة للتربية العربية، تقوم على نظرة جديدة إلى بنية هذه التربية وإطارها وأدواتها وإدارتها، بصورة تحقق الاستخدام الكامل الأمثل لمجموع المصادر والإمكانيات والمعطيات التي يقدمها عصر التكنولوجيا، ولا يعني هذا مجرد الاستعانة بالتقنيات الحديثة في العملية التعليمية.
ومن المفاهيم والحقائق التي يجب أن تراعى ما يلي:-
1- إن التقنيات التربوية التعليمية أصبحت عنصرا رئيسيا من عناصر العملية التعليمية التعلمية، ولم يعد من الممكن فصلها عن هذه العملية تخطيطا أو تنفيذا، كما لم يعد في وسع أي نظام تعليمي أن يتجاهل أو يزعم الاستغناء عنها في أي جزئية من جزئياته.
2- إن بعض المربين يبالغون في تقدير أهمية التقنيات إلى الحد الذي يطالبون منه أحيانا بإحلالها محل الكتب المقررة والمواد التعليمية، وعلى العكس من ذلك يتجه آخرون إلى الاعتماد بأن هذه التقنيات لا تعدوا من أن تكون إنتاجا فنيا أو جماليا أو كماليا، وكلا الرأيين فيهما تطرف وبعد عن الحقيقة، حيث أن هذه التقنيات التربوية في حقيقتها مدركات حسية لها القدرة على نقل وتوصيل المعارف والأفكار والخبرات والمهارات إلى الآخرين بطريقة جذابة ومشوقة، كما أنها تعين على تثبيت تلك المعارف والمهارات، فهي بهذا المفهوم هامة وضرورية للعمل التعليمي، لكنها لا تستطيع أن تحل محل المعلم الإنسان، وأن تغني عن الكتب والمواد التعليمية التقليدية.
3- إن التقنيات التربوية التعليمية تساعد في إيضاح مفاهيم تتضمنها فكرة أو رأي أو اتجاه موجه إلى فرد أو جماعة، بقصد التأثير فيهم أو تغيير سلوكهم، فالكلمة المكتوبة المرئية والمنطوقة المسموعة والصورة الثابتة والمتحركة والنماذج والعينات وغيرها، كلها وسائط تفيد في إيضاح أو تأكيد المفاهيم التي يراد نقلها إلى الآخرين، وإن عملية التأكيد أو عملية الإيضاح قد تحتاج إلى أكثر من وسيلة في وقت واحد، لتكمل بعضها البعض في سبيل تكثيف الدعوة إلى الأفكار التي يراد شرحها، أملا في إحداث أكبر تأثير تعليمي ممكن.
4- إن التقنيات التربوية التعليمية بتنوعها وتعددها توفر الآن للمعلم إمكانية الموازنة بين استخدامه للأساليب اللفظية وغير اللفظية، عندما تتاح له الفرصة لاختيار الأسلوب المناسب لمتطلبات الموقف التعليمي، ووفق مقتضيات المادة التعليمية أو الخبرة المطلوبة، وبحسب ما تتطلبه قدرات المعلم وحاجاته وميوله واتجاهاته وتقاليده وعقائده.
5- إن التقنيات التربوية التعليمية قد تستخدم في عمليات تعليمية مجردة، كعملية تعليم القراءة والكتابة والحساب وهي عملية تعليم رموز ولا توجد صلة مادية بينها وبين المعاني التي تدل عليها، لذا فإن مهمة التقنيات التعليمية في ذلك تتركز على تقريب مفهوم عملية القراءة والكتابة والحساب إلى المتعلم، بما تعرضه من محسوسات قد تتمثل في البطاقات أو الصور أو المجسمات أو الأشياء الحقيقية أو غيرها، بما ييسر فهم تلك الرموز ويحقق إيجابية الدارس وتفاعله مع المعلم.




ونخلص من كل هذا إلى أن التقنيات التربوية التعليمية في عالم اليوم،أصبحت عنصرا أساسيا من عناصر التطوير والتحديث في العمل التربوي بأكمله، ولم يعد في وسع التربية العربية وهي تسعى جاهدة إلى ملاحقة ركب التكنولوجيا الحديثة، والتطور الحضاري المعاصر، على أن تتخلى عن التصور التقليدي لمدلول الوسائل التعليمية، كمجرد وسائل مساعدة، وأن تعمل فورا على وضع التقنيات التربوية داخل نظرية منهجية متكاملة، تسير في خطوات منطقية تؤثر كل منها في الأخرى، آو تتأثر بها من خلال التلاحم بين مخططي المناهج ومصممي التقنيات التربوية التعليمية. عبد الله إسماعيل الصوفي :- التكنولوجيا الحديثة والتربية والتعليم ، الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، 2002، ط1، ص ص 18، 24.