لمعلوماتية سلطة جديدة



أصبحت المعلوماتية في نهاية هذا القرن القوة القصوى والأولى التي تحدد الاستراتيجيات وتفرز التوازنات السياسية والعسكرية، فلم تعد القوة السياسية أو العسكرية في تحالفات وتكتلات سياسية وحشود عسكرية بل أصبحت القوة في منطق العالم الجديد هي المعرفة التي بتزايدها ترفع مستوى القوة والتفوق على الآخرين، فلم يعد الغرب بحاجة اليوم

لاستعمال الحشود العسكرية لاختراق المجتمعات المحصنة اذ استطاع بتكنولوجيته المتفوقة ان يفرض نفسه على الكثير من مناطق العالم وان يحطم منظوماتها السياسية والثقافية عبر نشر أفكاره وقيمه ومشاريعه في حرب مسالمة لا دماء فيها ولا خسائر بشرية، فاليوم تمثل أسلحة مثل القنوات الفضائية ووكالات الأنباء والصحف والمجلات وتقنيات الكومبيوتر الحديثة مثل الإنترنت سلاحا خارقا يستطيع ان يحقق مالا تحققه القنابل النووية. فالحرب الحقيقية هي حرب التقنية والمعرفة والسيطرة على مصادر المعلومات.

وهذا ينعكس بشكل واضح على التفوق العسكري إذ ان: تفوق الغرب لا يرتبط إلى هذا الحد بعتاده العسكري إلا لان قواعده العسكرية ومختبراته وجنوده هي أدمغة وجيش من الباحثين والمهندسين وربما سيأتي يوم يكون فيه عدد الجنود الذين يحملون حواسيب اكثر من أولئك الذين يحملون بنادق، ووزارة الدفاع الأمريكية قامت بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه في العام 1993 حين وقع سلاح الطيران عقدا لشراء 300 ألف حاسوب شخصي، باختصار أصبحت المعرفة الوسيلة المركزية للتدمير كما أنها الوسيلة الأساسية للإنتاجية. والجيش الجديد يحتاج إلى جنود يستخدمون عقولهم ويستطيعون التكيف مع مختلف الشعوب والثقافات ويتقبلون الازدواجية ويأخذون المبادرة ويطرحون أسئلة.

الإنترنت بوابة القرن الواحد والعشرين



إذا أردنا منذ عقدين أو اكثر من الزمن ان نتصور شبكة الإنترنت ونتخيلها فأنها قد يتصور ضرب من الخيال ولكنها اليوم تمثل عماد المجتمع المعلوماتي الجديد ومعجزته التي يبشر بها حيث فتحت هذه الأداة الجديدة العالم على أبوابه ودكت كل التحصنات والأسوار فخيمت بانتشارها السريع على العالم الأثيري لينصاع العالم لها ويستسلم لجموحها.

ولأنها سهلة الاستخدام فأنها أصبحت في متناول كل يد لا تستطيع ان تتحمل تكاليف استخدام الأدوات الإعلامية الأخرى الراديو والتلفزيون والصحافة لذلك أصبحت منبرا مفتوحا للكثير من الجماعات والاتجاهات، كما انها أصبحت نهبا للجماعات الفاسدة والمنحرفة التي أخذت تنشر الجريمة والإباحية والشذوذ والأفكار المنحرفة.

ان شبكة الإنترنت تنمو بشكل هائل ومن المتوقع ان يصل حجم عشيرة الإنترنت إلى مليار مشترك في عام 2001 لتكون هذه الشبكة بمثابة تحقيق فعلي لاستعارة القرية الإلكترونية واثبات مجتمع المعلوماتية وسرعة تحقق الاتجاهات نحو تطبيق مفهوم العولمة.

لقد اصبح: امتلاك المعلومات قوة والإنترنت توفر مجالا كبيرا لامتلاك المعلومات فهي تطلع مستخدميها على المعلومات أولا بأول بل قد تسبق أحيانا الوسائل الأخرى في نشر المعلومات- تقرير ستار حول فضيحة كلينتون على سبيل المثال والذي يعد علامة فاصلة في تاريخ استخدام الإنترنت سياسيا- ، وتتيح الإنترنت أيضا المعلومات من مصادر متعددة ومتنوعة ومن جهات ذات توجهات مختلفة مما يساعد على مضاهاة ومقارنة المعلومات وتقييمها وهي لا تجعل المعلومة حكرا على أحد فالكل يعرفها والكل قادر على الوصول أليها وهي تتجاوز مستوى التغطية السطحية للأحداث السياسية.

ويرى البعض ان الإنترنت تمثل وجه العالم الجديد وهو المجتمع المعلوماتي حيث تتحقق الديمقراطية العالمية عبر بوابة الإنترنت ليصبح برلمانا مفتوحا يعبر فيه كل من يشاء عن رأيه ويشارك في اتخاذ القرارات وصنعها، إذ يرى المتحمسين لشبكة الإنترنت فيها الديمقراطية القصوى لديمقراطية المعلومات تحت شعار المعلومات في كل مكان وكل وقت ولكل الناس، أي الإنترنت: عن طريق البريد الإلكتروني تعطي لكل فرد مقعدا مجانيا في البرلمان الجماهيري يناقش ويعترض ويتساءل ويستجوب وهو بالتكامل مع المجموعات الإخبارية Usenet news يجسد المفاهيم الديمقراطية التي دعا إليها فلاسفة الديمقراطية في عصور النهضة، ويضيف مناصرو الإنترنت انه عن طريقها يمكن ان يعبر المرء بحرية عن رأيه وان يمتلك منبره الخاص وان يتبادل الآراء وان يشكل مع أصدقائه جماعة ضغط إلكتروني تؤثر على القرارات السياسية للحكومات وتوجهها كما ان بمقدور مستخدم الإنترنت أن يشارك في صناعة القرار وان يلتقي بالزعماء والرؤساء وان يلقي بآرائه على مسامعهم.

ان وجود هذا الحلم بنشر العدالة لا يعني انه يتحقق في امتلاك هذه الأدوات المعلوماتية لان الفرق يبقى كبيرا بين منتجي المعلوماتية ومستهلكيها، وهو يستحيل تحقيقه طالما ظلت الإنترنت شبكة خاضعة لسيطرة أباطرة المعلومات الذي يمتلكون كل أسرارها وقوتها وجوهرها ويرمون بالقشور إلى الباقيين وذلك أيضا للاستهلاك التجاري، لذلك يرى معارضو الإنترنت ان: مجتمع الإنترنت إنما يمثل ثقافة المجتمعات الرأسمالية ومنتدى أصحاب البشرة البيضاء والذين يتكلمون بالإنجليزية ومعظمهم من الأمريكيين وان فكرة الديمقراطية الإلكترونية تعبر عن مفهوم الهيمنة الغربية الذي يرى نفسه فوق الجميع ويستغل الإنترنت للترويج لثقافة المنافسة الحرة والمشروعات الفردية، ويقول أنصار هذه الرؤية ان الحديث عن الديمقراطية اون لاين online يجب ان يسبقه الحديث عن حقوق الأفراد الذين هم في مواقع الoff-line فلم تتوفر لعدد كبير من الجمهور فرص تعليمية كافية ولا إمكانيات إتصالية للدخول إلى هذا العالم الافتراضي أو يصبحوا ضمن مواطني مجتمع الويب، فعدد مستخدمي الإنترنت وفقا للتقديرات لا يتجاوز 175 مليونا مستخدم فأين هذا من المليارات البشرية.

ومع القوة التي تتمتع بها الرأسمالية فان فسحة المعلوماتية تضيق في وجه الأكثرية وتحجب عنها شمس الحرية التي تحلم بها، لان: دخول الشركات الكبرى إلى عالم الإنترنت يمنع ويحد من دور الأفراد والجماعات الصغيرة في المنافسة مع ارتفاع التكاليف وقلة زوار المواقع الفردية التي لا تتمتع بمواقع مغرية مثل مواقع الشركات الكبيرة، فالإنترنت قاصرة على نخبة مميزة وعلى شركات أعمال ضخمة تستغل المشتركين وتذبح المفهوم الجماهيري للديمقراطية، ومع غلبة الفعل المادي قد يخرج عدد كبير من المنافسين من ساحة الحوار الإلكتروني. ان الحكومات والشركات الكبرى بدأت بلعب دور حارس البوابة التقليدي مع تزايد مساحة التواجد التجاري الذي قفز في سنوات قليلة من 2% إلى 80% مدعوما بثقافة الترفيه وهو أمر ضد مفهوم الديمقراطية التي هي ليست سلعة تباع وتشترى وانما هي فلسفة وطريقة حياة، لذلك فان جل اهتمامهم الآن هو تحويل مستخدمي الإنترنت إلى مستهلكين وهو أمر يحولها إلى متجر إلكتروني وليس إلى منتدى سياسي.

ان الإنترنت تمثل ذلك المجتمع المعلوماتي الجديد ولكنه مجتمع منغلق على نفسه لا يلبي إلا رغبات ومصالح النخبة التي تديره وتستخدمه، وهو بالتالي لا ينشر إلا الثقافة والمعلومة التي تسير في إطار ثقافته، وبعبارة أخرى فان مجتمع الإنترنت يسير في اتجاه التعليب الإعلامي المسيّر في اغلبه إلا في بعض الموارد القليلة التي ينفرد فيها أفراد أو جماعات للتعبير عن آراءهم ولكنها تبقى صيحة خافتة في وسط صحراء شاسعة.

هذا الأمر ينعكس علينا عندما نشعر بمدى ضياعنا في ذلك المجتمع المعلوماتي المعقد فالإحصاءات تشير إلى ان المواقع التي تنتشر على صفحات شبكة الإنترنت يمثل منها 82% من المواد باللغة الإنجليزية، و4% باللغة الألمانية، و1،6% باللغة اليابانية، و1،3% باللغة الفرنسية، و1% باللغة الأسبانية، والباقي موزع بين باقي لغات العالم واغلبها لغات أوربية.

ان ملامح واوجه المجتمع المعلوماتي يؤكد ان الإعصار الكبير سوف يجتاح الأمم وسوف يستأصل كل أسسه الفكرية والعقائدية والثقافية ويحولها إلى قطيع إلكتروني يستهلك ما تنتجه تلك الدول. وهذا التحدي يستدعينا لمواجهة هذا الإعصار والوقوف بصمود أمامه لا بقطيعته وسد ابوابه بشكل مطلق اذ ان الانغلاق مستحيل في عالم مفتوح جدا، وانما بامتلاك أسلحة المعرفة امتلاكا حقيقيا قائما على الوعي السليم والاستفادة الناضجة من ادواتها لتحقيق النشر المعلوماتي الهادف في خير البشرية وسعادتها.

وسوف نقوم لاحقا بدراسة وبحث جوانب أخرى من تحديات المعلوماتية في حاضرنا وتأثيرها في بناء مستقبلنا.

أضرار المعلوماتية أثارها السلبية

نحن وتحديات الثورة المعلوماتية

كيف نواجه تحديات هذه الظاهرة؟