براديغم تكنولوجيا المعلومات
يحيى اليحياوي
-1-
في الجزء الأول من ثلاثيته الضخمة عن "المجتمع الشبكي", يقول عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاسطيل: "إن العامل التاريخي الذي سرع ووجه وشكل باراديغم التكنولوجيا المعلوماتية بطريقة لا رجعة فيها, وكذا الأشكال الاجتماعية التي رافقته, كان ولا يزال إلى اليوم مسلسل إعادة الهيكلة الرأسمالية المباشر فيها منذ سنوات الثمانينات, لدرجة أن النظام التقنواقتصادي الجديد يمكن أن يوصف عن حق بالرأسمالية المعلوماتية".
والواقع, يضيف كاسطيل, أنه " لولا تكنولوجيا المعلومات الجديدة, فإن الرأسمالية الكونية ما كان لأن يكون لها البريق الذي تعرفه اليوم...(بالتالي) فالعهد المعلوماتي إنما هو مرتبط بتطور وتشبيب الرأسمالية تماما كما كان العهد الصناعي أداة هذه الأخيرة لتتحول إلى نمط في الإنتاج".
من " مسلمة" الكاتب هاته إذن يمكن للمرء استشفاف ثلاثة استنتاجات مركزية:
+ الأول أنه في ظل "النمط المعلوماتي للإنتاج" تعتبر تكنولوجيا إنتاج المعلومات واستغلالها وتداول الرموز مصدر الإنتاجية الأكبر.
معنى هذا أنه لو كانت المعلومات والمعرفة عناصر أساسية في معظم أنماط التنمية (على اعتبار ارتكاز الإنتاج على مستوى معين من المعرفة وتحويل المعلومة), فإن ما يميز نمط التنمية المعلوماتي إنما "هو فعل المعرفة على المعرفة كمصدر أساسي للإنتاج".
ومعناه أيضا أن الاشتغال على المعلومة إنما يتغيأ تحسين تكنولوجيا الاشتغال على المعلومة كمصدر للإنتاجية وفق نوع من التفاعلية بين المعارف التي هي أساس التكنولوجيا والتطبيقات المترتبة عنها بغرض " تحسين جيل المعرفة والاشتغال على المعلومة".
+ الاستنتاج الثاني ومفاده أنه مادام أن كل نمط في الإنتاج يفترض منظومة ومكونات نظرية وبراديغما خاصا به, فإن نمط الإنتاج المعلوماتي " قد ولد من رحم باراديغم تكنولوجي جديد مبني على تكنولوجيا المعلومات".
بمعنى أنه إذا كان نمط الإنتاج الصناعي يتغيأ التنمية الاقتصادية, أي مستوى أقصى من الإنتاج, فإن " نمط الإنتاج المعلوماتي يتغيأ التنمية التكنولوجية, أي مراكمة المعرفة والتعقيد المتزايد لاستغلال المعلومات".
+ أما الاستنتاج الثالث فيتراءى لنا كامنا (ولو بصفة ضمنية لدى الكاتب) في التمييز القائم بين مجتمع المعلومات والمجتمع المعلوماتي تماما كالتمييز بين اقتصاد المعلومات والاقتصاد المعلوماتي.
فمجتمع المعلومات لا يعني شيئا آخر سوى دور المعلومات بالمجتمع بصرف النظر عن مستويات التنمية والحقب التاريخية المتتالية. أما المجتمع المعلوماتي فهو " شكل معين من التنظيم الاجتماعي حيث إنتاج واستغلال وإرسال المعلومات تضحو الموارد الأولية للإنتاجية وللسلطة بحكم الظروف التكنولوجية التي ظهرت بالفترة التاريخية هاته...ولعل إحدى الجوانب الأساسية للمجتمع المعلوماتي منطق الشبكة الذي يهيمن على بنيته المركزية".
وعلى هذا الأساس, فالثورة التكنولوجية التي طاولت العالم, ابتداء من ثمانينات القرن الماضي, لا ترتكز فقط على المعلومة أوالمعارف بل وأيضا على الإمكانية التي تمنحها المعلومة إياها لإنتاج المعارف وأدوات الاتصال, خالقة بذلك دائرة تفاعلية مستمرة بين الإبداع التكنولوجي واستخدام ذات التوظيف... وفاسحة في المجال بذلك لجعل الذهن البشري قوة إنتاج مباشرة وليس فقط عنصرا حاسما في منظومة الإنتاج.
وعلى هذا الأساس أيضا, فمصطلح الرأسمالية المعلوماتية, وفق ما ورد, لا يعني بروز رأسمالية جديدة من نوع ما, بل يعني إعادة هيكلة جدرية لنمط الإنتاج الرأسمالي القائم على خلفية من تطبيق هاته الأخيرة على عمليات إنتاج المعارف واستغلال وتوزيع المعلومات وفق جدلية تراكمية بين الإبداع التكنولوجي والتطبيقات العملية المترتبة عنه.
من هنا فالرأسمالية المعلوماتية لا ترتكز على التكنولوجيا الجديدة كأدوات للاستخدام ولكن أيضا كنظم للتطوير...وهو ما يترتب عنه "علاقة حميمة بين الحركية الاجتماعية للإنتاج والتصرف في الرموز (ثقافة المجتمع) وبين القدرة على إنتاج وتوزيع السلع والخدمات أي قوى الإنتاج.
لا يبدو الأمر أن الرأسمالية المعلوماتية تؤرخ لقطيعة من نوع ما في صيرورة الرأسمالية, بل هي تأريخ لحركية داخلية لهذه الأخيرة نقلتها من عالم إلى آخر دونما " تمرد" كبير على المنظومة القائمة.
يقول ميشيل كارتير: " هناك انتقال من عالم إلى آخر عندما يتحول الزمن والمكان لدرجة تتحول معه الثقافة...ويبدو أنه بتعمق التحولات بداخل تاريخنا, فإن الزمن والمكان يبرزان ولكأنهما يتقلصان...إن انفجار طرق الإعلام والاتصال السيارة هي إيدان بمرحلة حاسمة لعالم بلغ مفترقا تتداخل بصلبه المعطيات المجتمعاتية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية...الخ. فالدولة والسياسي والاقتصادي لم يعودوا فاعلين في نفس الزمن والمكان كما كان الأمر من ذي قبل".
لا يتعلق الأمر عند كارتيير, كما عند كاسطيل كما عند غيرهما, بتحول في طبيعة الملكية أو منطقها أو بنية النظام الرأسمالي أو ما سواها, بقدر ما يتعلق بهيكلة داخلية لذات النظام ترتب عن بروز أشكال تنظيمية جديدة فرضتها وحتمتها التحولات التكنولوجية في ميدان المعلومات والمعارف.
هي تجديد له من الداخل وليست, بأي حال من الأحوال, معطى من خارجه أو تجاوزا لمنطقه.
-2-
ليس من شك, فيما نعتقد, أن فهم طبيعة الرأسمالية المعلوماتية كما تتراءى لنا بداية هذا القرن, إنما تمر عبر فهم خصوصية التحولات المعلوماتية (في الإعلام كما في الاتصال) التي لا يمكن اختزالها كإحدى عناصر الثورات الصناعية حتى وإن كانت تنعث بالثالثة.
وليس ثمة من شك أيضا أن ما ينعت ب "العصر المعلوماتي إنما هو تحول كبير يحمل خاصيتين مركزيتين إثنتين:
+ الأولى وتكمن في الانتقال من عهد مبني على المادة والطاقة إلى عهد مرتكز على المعلومات والمعارف.
+ أما الثانية فتتمثل في كون "المعلومة في المفهوم التقني, هي عبارة عن تيارات للرموز الرقمية,...لكنها تعطي مكانة مميزة للذكاء البشري في عملية الإنتاج وإعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية...فالثورتان الفلاحية والصناعية المنظمتين بالأساس حول علاقة المادة بالطاقة كانتا تختزلان الذكاء البشري في وظيفة تكيف خالصة مع التقنيات الجديدة والآلات الجديدة...هذه المرة أضحت حصة البرمجيات, وبالتالي المادة الرمادية, أكثر حسما من الحاسوب ذاته في مكونه المادي".
وعلى هذا الأساس, فلو كان للمرء أن يستقرأ طبيعة الرأسمالية المعلوماتية على خلفية من اعتبارها نتاج تحولات تكنولوجية كبرى, فإن إحدى السبل الواردة لذلك إنما تكمن في ملامسة العناصر التي من شأنها التأسيس لوجود براديغم تكنولوجي لا كما نظر لذلك طوماس كيون ولكن أساسا كما طوره باحثون في الميدان من بعده.
والواقع أننا هنا إنما بإزاء خمس خصائص كبرى توجد بصلب براديغم تكنولوجيا المعلومات لتمثل مجتمعة البنية المادية للمجتمع المعلوماتي:
+ أما الخاصية الأولى لهذا البراديغم الجديد فتكمن في كون المعلومات هي مادته الأولية, أي أن التكنولوجيا هي التي تفعل في المعلومات وليس فقط المعلومات التي تفعل في التكنولوجيا كما كان الحال في الثورات التقنية السابقة.
ومعناه أيضا أن القاعدة المادية للرأسمالية المعلوماتية هي البنية التحتية لإنتاج المعلومات, لكنها أيضا المعلومات المنتجة, المستغلة, الموزعة والمستهلكة.
+ الخاصية الثانية وتتمثل في اتساع مجال آثار التكنولوجيا الجديدة لدرجة سطوتها على البراديغم إياه وبسط نفوذها على ما تبقى من نفوذه. " فالمعلومات جزء لا يتجزأ من كل نشاط إنساني, (بالتالي) فكل مكامن وجودنا الفردي والجماعي مصاغة...من لدن هذا الوسيط التكنولوجي".
ومعنى هذا أن المكونات إياها لا يطالها اختراق التكنولوجيا الجديدة شكلا ومضمونا, بل أضحت رهينة لتأثيراتها إذا لم تكن المباشرة, فبطريقة غير مباشرة لا محالة.
+ أما الخاصية الثالثة للبراديغم التكنولوجي هذا فتتراءى لنا كامنة في المنطق الشبكي لأي منظومة أو مجموعة العلاقات التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات الجديدة لدرجة تبدو معها مورفولوجية الشبكة متوافقة والتعقد المتزايد للتفاعل.
وبناء على ذلك, فإن " طوبوغرافية الشبكة يمكن أن توظف في كل أشكال التنظيمات عن طريق تكنولوجيا المعلومات التي نتوفر عليها. بدون هذه التكنولوجيا سيكون المنطق الشبكي متعذر التحقيق".
ومعنى هذا أن المنطق إياه ضروري لهيكلة كل الأشكال غير المهيكلة مع الحفاظ على سمة المرونة على اعتبار "أن ما هو غير مهيكل هو محرك الإبداع بكل نشاط إنساني".
بالتالي, فالطبيعة الشبكية التي توفرها تكنولوجيا المعلومات الجديدة إنما تدفع بجهة إدماج كل الأشكال القائمة المهيكل منها كما غير المهيكل سواء بسواء.
+ الخاصية الرابعة وتتراءى لنا مرتبطة بالاندماج الشبكي حتى وإن بدت متميزة عنه...ويتعلق الأمر بانبناء براديغم تكنولوجيا المعلومات على المرونة.
فالذي يميز هذا البراديغم التكنولوجي الجديد إنما " قدرته على إعادة التنظيم...وهي سمة مركزية في مجتمع ميزته الكبرى التحول المستمر والليونة التنظيمية...لقد أصبح أمر قلب القواعد دونما تدمير للتنظيم أمرا ممكنا لأن القاعدة المادية لهذا الأخير من شأنها أن تتبرمج من جديد وتتهيكل".
ومعنى هذا أن الليونة بقدر ما هي محررة, فإنها قد تكون في الآن ذاته مجبرة, سالبة للحرية في الحركة والتنظيم.
+ أما الخاصية الخامسة لهذه الثورة التكنولوجية والبراديغم الكامن في صلبها, فتتمثل في التداخل المتزايد لتكنولوجيا محددة في إطار نظام عالي الاندماج "حيث الصيرورات التكنولوجية القديمة والمختلفة أضحت من الاستحالة تمييزها". لهذا السبب نرى أن الألكترونيات الدقيقة والاتصالات السلكية واللاسلكية والألكترونيات الضوئية والحواسيب, نراها مندمجة في أنظمة للمعلومات".
قد يسلم المرء ب"الاستقلالية" النسبية لهذه الفروع بعضها عن بعض بحكم تباينها وتباين المهن, لكن ذات التباين سرعان ما بدأ يتراجع جراء بروز الرقمنة وتزايد التحالفات الاستراتيجية بين القطاعات والفاعلين بها.
ومعنى هذا أن سر الاندماج بين مختلف الميادين التكنولوجية في إطار براديغم المعلومات, إنما يأتي من كون كل هذه الميادين تنتظم في منطق واحد لإنتاج المعلومات.
لو كان لنا, على أساس هذه الخاصيات, أن نصيغ الأطروحة الكبرى الثاوية خلف تصاعد الرأسمالية المعلوماتية (وفي صلبها براديغم المعلومات الجديد), لصغناها كما يلي: إن بروز الرأسمالية المعلوماتية وتجذرها إنما يتميز بمسلسل للتحول التكنولوجي لازال قائما مرتبط بتطور منطق جديد في التنظيم يطال منظومة الإنتاج وهيكلة التنظيم القائم إلى حين عهد قريب.
هي عملية اقتصادية ومؤسساتية وثقافية بامتياز تطال الرأسمال والاقتصاد المعلوماتي في شكله كما في جوهره.
يقول مانويل كاسطيل في هذا الشأن: "إن الاندماج والتداخل بين البراديغم التكنولوجي الجديد والمنطق التنظيمي الجديد هما اللذان يكونان المحدد التاريخي للاقتصاد المعلوماتي" بما هو تجلي الرأسمالية المعلوماتية ومكونها الأساس.
نحن هنا إذن لسنا فقط بإزاء براديغم تكنولوجي جديد يطال مختلف أشكال التنظيمات القائمة, بل وأيضا بإزاء انبعاث " براديغم تنظيمي" جديد يأخذ من الأول قوته وإلى حد ما تبريره في الزمن والمكان.
جريدة العلم, 15 يونيو 2004
يحيى اليحياوي
-1-
في الجزء الأول من ثلاثيته الضخمة عن "المجتمع الشبكي", يقول عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاسطيل: "إن العامل التاريخي الذي سرع ووجه وشكل باراديغم التكنولوجيا المعلوماتية بطريقة لا رجعة فيها, وكذا الأشكال الاجتماعية التي رافقته, كان ولا يزال إلى اليوم مسلسل إعادة الهيكلة الرأسمالية المباشر فيها منذ سنوات الثمانينات, لدرجة أن النظام التقنواقتصادي الجديد يمكن أن يوصف عن حق بالرأسمالية المعلوماتية".
والواقع, يضيف كاسطيل, أنه " لولا تكنولوجيا المعلومات الجديدة, فإن الرأسمالية الكونية ما كان لأن يكون لها البريق الذي تعرفه اليوم...(بالتالي) فالعهد المعلوماتي إنما هو مرتبط بتطور وتشبيب الرأسمالية تماما كما كان العهد الصناعي أداة هذه الأخيرة لتتحول إلى نمط في الإنتاج".
من " مسلمة" الكاتب هاته إذن يمكن للمرء استشفاف ثلاثة استنتاجات مركزية:
+ الأول أنه في ظل "النمط المعلوماتي للإنتاج" تعتبر تكنولوجيا إنتاج المعلومات واستغلالها وتداول الرموز مصدر الإنتاجية الأكبر.
معنى هذا أنه لو كانت المعلومات والمعرفة عناصر أساسية في معظم أنماط التنمية (على اعتبار ارتكاز الإنتاج على مستوى معين من المعرفة وتحويل المعلومة), فإن ما يميز نمط التنمية المعلوماتي إنما "هو فعل المعرفة على المعرفة كمصدر أساسي للإنتاج".
ومعناه أيضا أن الاشتغال على المعلومة إنما يتغيأ تحسين تكنولوجيا الاشتغال على المعلومة كمصدر للإنتاجية وفق نوع من التفاعلية بين المعارف التي هي أساس التكنولوجيا والتطبيقات المترتبة عنها بغرض " تحسين جيل المعرفة والاشتغال على المعلومة".
+ الاستنتاج الثاني ومفاده أنه مادام أن كل نمط في الإنتاج يفترض منظومة ومكونات نظرية وبراديغما خاصا به, فإن نمط الإنتاج المعلوماتي " قد ولد من رحم باراديغم تكنولوجي جديد مبني على تكنولوجيا المعلومات".
بمعنى أنه إذا كان نمط الإنتاج الصناعي يتغيأ التنمية الاقتصادية, أي مستوى أقصى من الإنتاج, فإن " نمط الإنتاج المعلوماتي يتغيأ التنمية التكنولوجية, أي مراكمة المعرفة والتعقيد المتزايد لاستغلال المعلومات".
+ أما الاستنتاج الثالث فيتراءى لنا كامنا (ولو بصفة ضمنية لدى الكاتب) في التمييز القائم بين مجتمع المعلومات والمجتمع المعلوماتي تماما كالتمييز بين اقتصاد المعلومات والاقتصاد المعلوماتي.
فمجتمع المعلومات لا يعني شيئا آخر سوى دور المعلومات بالمجتمع بصرف النظر عن مستويات التنمية والحقب التاريخية المتتالية. أما المجتمع المعلوماتي فهو " شكل معين من التنظيم الاجتماعي حيث إنتاج واستغلال وإرسال المعلومات تضحو الموارد الأولية للإنتاجية وللسلطة بحكم الظروف التكنولوجية التي ظهرت بالفترة التاريخية هاته...ولعل إحدى الجوانب الأساسية للمجتمع المعلوماتي منطق الشبكة الذي يهيمن على بنيته المركزية".
وعلى هذا الأساس, فالثورة التكنولوجية التي طاولت العالم, ابتداء من ثمانينات القرن الماضي, لا ترتكز فقط على المعلومة أوالمعارف بل وأيضا على الإمكانية التي تمنحها المعلومة إياها لإنتاج المعارف وأدوات الاتصال, خالقة بذلك دائرة تفاعلية مستمرة بين الإبداع التكنولوجي واستخدام ذات التوظيف... وفاسحة في المجال بذلك لجعل الذهن البشري قوة إنتاج مباشرة وليس فقط عنصرا حاسما في منظومة الإنتاج.
وعلى هذا الأساس أيضا, فمصطلح الرأسمالية المعلوماتية, وفق ما ورد, لا يعني بروز رأسمالية جديدة من نوع ما, بل يعني إعادة هيكلة جدرية لنمط الإنتاج الرأسمالي القائم على خلفية من تطبيق هاته الأخيرة على عمليات إنتاج المعارف واستغلال وتوزيع المعلومات وفق جدلية تراكمية بين الإبداع التكنولوجي والتطبيقات العملية المترتبة عنه.
من هنا فالرأسمالية المعلوماتية لا ترتكز على التكنولوجيا الجديدة كأدوات للاستخدام ولكن أيضا كنظم للتطوير...وهو ما يترتب عنه "علاقة حميمة بين الحركية الاجتماعية للإنتاج والتصرف في الرموز (ثقافة المجتمع) وبين القدرة على إنتاج وتوزيع السلع والخدمات أي قوى الإنتاج.
لا يبدو الأمر أن الرأسمالية المعلوماتية تؤرخ لقطيعة من نوع ما في صيرورة الرأسمالية, بل هي تأريخ لحركية داخلية لهذه الأخيرة نقلتها من عالم إلى آخر دونما " تمرد" كبير على المنظومة القائمة.
يقول ميشيل كارتير: " هناك انتقال من عالم إلى آخر عندما يتحول الزمن والمكان لدرجة تتحول معه الثقافة...ويبدو أنه بتعمق التحولات بداخل تاريخنا, فإن الزمن والمكان يبرزان ولكأنهما يتقلصان...إن انفجار طرق الإعلام والاتصال السيارة هي إيدان بمرحلة حاسمة لعالم بلغ مفترقا تتداخل بصلبه المعطيات المجتمعاتية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية...الخ. فالدولة والسياسي والاقتصادي لم يعودوا فاعلين في نفس الزمن والمكان كما كان الأمر من ذي قبل".
لا يتعلق الأمر عند كارتيير, كما عند كاسطيل كما عند غيرهما, بتحول في طبيعة الملكية أو منطقها أو بنية النظام الرأسمالي أو ما سواها, بقدر ما يتعلق بهيكلة داخلية لذات النظام ترتب عن بروز أشكال تنظيمية جديدة فرضتها وحتمتها التحولات التكنولوجية في ميدان المعلومات والمعارف.
هي تجديد له من الداخل وليست, بأي حال من الأحوال, معطى من خارجه أو تجاوزا لمنطقه.
-2-
ليس من شك, فيما نعتقد, أن فهم طبيعة الرأسمالية المعلوماتية كما تتراءى لنا بداية هذا القرن, إنما تمر عبر فهم خصوصية التحولات المعلوماتية (في الإعلام كما في الاتصال) التي لا يمكن اختزالها كإحدى عناصر الثورات الصناعية حتى وإن كانت تنعث بالثالثة.
وليس ثمة من شك أيضا أن ما ينعت ب "العصر المعلوماتي إنما هو تحول كبير يحمل خاصيتين مركزيتين إثنتين:
+ الأولى وتكمن في الانتقال من عهد مبني على المادة والطاقة إلى عهد مرتكز على المعلومات والمعارف.
+ أما الثانية فتتمثل في كون "المعلومة في المفهوم التقني, هي عبارة عن تيارات للرموز الرقمية,...لكنها تعطي مكانة مميزة للذكاء البشري في عملية الإنتاج وإعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية...فالثورتان الفلاحية والصناعية المنظمتين بالأساس حول علاقة المادة بالطاقة كانتا تختزلان الذكاء البشري في وظيفة تكيف خالصة مع التقنيات الجديدة والآلات الجديدة...هذه المرة أضحت حصة البرمجيات, وبالتالي المادة الرمادية, أكثر حسما من الحاسوب ذاته في مكونه المادي".
وعلى هذا الأساس, فلو كان للمرء أن يستقرأ طبيعة الرأسمالية المعلوماتية على خلفية من اعتبارها نتاج تحولات تكنولوجية كبرى, فإن إحدى السبل الواردة لذلك إنما تكمن في ملامسة العناصر التي من شأنها التأسيس لوجود براديغم تكنولوجي لا كما نظر لذلك طوماس كيون ولكن أساسا كما طوره باحثون في الميدان من بعده.
والواقع أننا هنا إنما بإزاء خمس خصائص كبرى توجد بصلب براديغم تكنولوجيا المعلومات لتمثل مجتمعة البنية المادية للمجتمع المعلوماتي:
+ أما الخاصية الأولى لهذا البراديغم الجديد فتكمن في كون المعلومات هي مادته الأولية, أي أن التكنولوجيا هي التي تفعل في المعلومات وليس فقط المعلومات التي تفعل في التكنولوجيا كما كان الحال في الثورات التقنية السابقة.
ومعناه أيضا أن القاعدة المادية للرأسمالية المعلوماتية هي البنية التحتية لإنتاج المعلومات, لكنها أيضا المعلومات المنتجة, المستغلة, الموزعة والمستهلكة.
+ الخاصية الثانية وتتمثل في اتساع مجال آثار التكنولوجيا الجديدة لدرجة سطوتها على البراديغم إياه وبسط نفوذها على ما تبقى من نفوذه. " فالمعلومات جزء لا يتجزأ من كل نشاط إنساني, (بالتالي) فكل مكامن وجودنا الفردي والجماعي مصاغة...من لدن هذا الوسيط التكنولوجي".
ومعنى هذا أن المكونات إياها لا يطالها اختراق التكنولوجيا الجديدة شكلا ومضمونا, بل أضحت رهينة لتأثيراتها إذا لم تكن المباشرة, فبطريقة غير مباشرة لا محالة.
+ أما الخاصية الثالثة للبراديغم التكنولوجي هذا فتتراءى لنا كامنة في المنطق الشبكي لأي منظومة أو مجموعة العلاقات التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات الجديدة لدرجة تبدو معها مورفولوجية الشبكة متوافقة والتعقد المتزايد للتفاعل.
وبناء على ذلك, فإن " طوبوغرافية الشبكة يمكن أن توظف في كل أشكال التنظيمات عن طريق تكنولوجيا المعلومات التي نتوفر عليها. بدون هذه التكنولوجيا سيكون المنطق الشبكي متعذر التحقيق".
ومعنى هذا أن المنطق إياه ضروري لهيكلة كل الأشكال غير المهيكلة مع الحفاظ على سمة المرونة على اعتبار "أن ما هو غير مهيكل هو محرك الإبداع بكل نشاط إنساني".
بالتالي, فالطبيعة الشبكية التي توفرها تكنولوجيا المعلومات الجديدة إنما تدفع بجهة إدماج كل الأشكال القائمة المهيكل منها كما غير المهيكل سواء بسواء.
+ الخاصية الرابعة وتتراءى لنا مرتبطة بالاندماج الشبكي حتى وإن بدت متميزة عنه...ويتعلق الأمر بانبناء براديغم تكنولوجيا المعلومات على المرونة.
فالذي يميز هذا البراديغم التكنولوجي الجديد إنما " قدرته على إعادة التنظيم...وهي سمة مركزية في مجتمع ميزته الكبرى التحول المستمر والليونة التنظيمية...لقد أصبح أمر قلب القواعد دونما تدمير للتنظيم أمرا ممكنا لأن القاعدة المادية لهذا الأخير من شأنها أن تتبرمج من جديد وتتهيكل".
ومعنى هذا أن الليونة بقدر ما هي محررة, فإنها قد تكون في الآن ذاته مجبرة, سالبة للحرية في الحركة والتنظيم.
+ أما الخاصية الخامسة لهذه الثورة التكنولوجية والبراديغم الكامن في صلبها, فتتمثل في التداخل المتزايد لتكنولوجيا محددة في إطار نظام عالي الاندماج "حيث الصيرورات التكنولوجية القديمة والمختلفة أضحت من الاستحالة تمييزها". لهذا السبب نرى أن الألكترونيات الدقيقة والاتصالات السلكية واللاسلكية والألكترونيات الضوئية والحواسيب, نراها مندمجة في أنظمة للمعلومات".
قد يسلم المرء ب"الاستقلالية" النسبية لهذه الفروع بعضها عن بعض بحكم تباينها وتباين المهن, لكن ذات التباين سرعان ما بدأ يتراجع جراء بروز الرقمنة وتزايد التحالفات الاستراتيجية بين القطاعات والفاعلين بها.
ومعنى هذا أن سر الاندماج بين مختلف الميادين التكنولوجية في إطار براديغم المعلومات, إنما يأتي من كون كل هذه الميادين تنتظم في منطق واحد لإنتاج المعلومات.
لو كان لنا, على أساس هذه الخاصيات, أن نصيغ الأطروحة الكبرى الثاوية خلف تصاعد الرأسمالية المعلوماتية (وفي صلبها براديغم المعلومات الجديد), لصغناها كما يلي: إن بروز الرأسمالية المعلوماتية وتجذرها إنما يتميز بمسلسل للتحول التكنولوجي لازال قائما مرتبط بتطور منطق جديد في التنظيم يطال منظومة الإنتاج وهيكلة التنظيم القائم إلى حين عهد قريب.
هي عملية اقتصادية ومؤسساتية وثقافية بامتياز تطال الرأسمال والاقتصاد المعلوماتي في شكله كما في جوهره.
يقول مانويل كاسطيل في هذا الشأن: "إن الاندماج والتداخل بين البراديغم التكنولوجي الجديد والمنطق التنظيمي الجديد هما اللذان يكونان المحدد التاريخي للاقتصاد المعلوماتي" بما هو تجلي الرأسمالية المعلوماتية ومكونها الأساس.
نحن هنا إذن لسنا فقط بإزاء براديغم تكنولوجي جديد يطال مختلف أشكال التنظيمات القائمة, بل وأيضا بإزاء انبعاث " براديغم تنظيمي" جديد يأخذ من الأول قوته وإلى حد ما تبريره في الزمن والمكان.
جريدة العلم, 15 يونيو 2004