لذكاءات المتعددة :
من أعظم النعم التى كرم الله بها الإنسان أن حباه عقلاً معجزاً فى ملكاته وإنجازاته ، بما أودعه فى هذا العقل من قدرات تعمل وتتفاعل فيما بينها فى تنسيق إلهي متكامل ، مما دعا الباحثين فى علم النفس إلى الاهتمام بالجانب العقلي المعرفي للإنسان ، وكان موضوع الذكاء من الموضوعات التى استمر الجدال والخلاف حولها لسنوات طويلة ، ومن ثمرة هذا الخلاف ظهور نظريات واتجاهات عديدة حاولت فهم وتفسير العقل البشري منها الاتجاه التقليدي لدراسة الذكاء وقياسه ، واتجاه الذكاءات المتعددة .
أولاً : الاتجاه التقليدي لدراسة الذكاء :
طبقاً لهذا الاتجاه فإن الذكاء هو قدرة معرفية موحدة ، يولد بها الأفراد ، وهذه القدرة
يمكن قياسها بسهولة ، من خلال الاختبارات التى تتضمن أسئلة ذات إجابات قصيرة
( Gardner, 1983 , 13) .
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الذكاء يظل ثابتاً فى كل المواقف ، وهذا يعنى أن ذكاء الفرد لا يتغير سواء أكان يحل مشكلة حسابية ، أم يتعلم كيف يتزحلق على الجليد ، أم يحاول أن يجد طريقه فى مدينة جديدة . (Krechevsky, 1998 , 121) .
والجدير بالذكر أن هذا الاتجاه التقليدي قد أفرز الكثير من النظريات ؛ منها نظرية العامل الواحد ، والتى ترى أن هناك عاملاً عاماً يقف خلف جميع أساليب النشاط العقلي ، وبالتالي يمكن فى ضوئه الحكم على مستوى النمو العقلي للفرد ، وقد أخذ بهذه النظرية " ألفريد بينيه "Binet " وتيرمان Terman.
وأكد فؤاد أبو حطب (فتحي مصطفي الزيات ، 1995) أن منظور العامل الواحد لم يقدم تفسيراً مقنعاً للنشاط العقلي ومكوناته ومحدداته ، فضلاً عن أن هذه النظرية لم تخضع منهجياً أو إجرائياً لدرجة كافية من التجريب مما دعا إلى ظهور نظرية العاملين التى قدمها سبيرمان والتى تقوم على الافتراضات التالية :
- أن هناك علاقات موجبة بين مختلف صور النشاط العقلي .
- أنه أياً كان أسلوب النشاط العقلي فإنه يتمايز فى عاملين : عامل عام ، وعامل نوعي خاص.
ويرى حسنى الجبالي (1997 ، 22) أن العامل العام فطري وراثي لا يتأثر بالبيئة ، وإلى جانب هذا العامل العام والذى يمثل القدر المشترك لأى نشاط عقلي يوجد عامل خاص هو الذى يميز هذا النوع من النشاط عن غيره ..
ولكن هذه النظرية تعرضت لنقد شديد على يد ثورنديك Thorndik ولم يبق لها إلا قيمتها التاريخية فقط ، حيث يري أن العامل العام الذى نادي به سبيرمان لا يفسر تباين أداء الفرد من نشاط عقلي إلى نشاط عقلي آخر ، لذلك نظر ثورنديك إلى الذكاء على أنه عدد من القدرات الخاصة ، التى تميز السلوك الذكي ، وصنف القدرات المكونة للنشاط العقلي على النحو التالى :
- القدرة على التجريد .
- القدرة الميكانيكية .
- القدرة على التكيف الاجتماعي . (محمد حسن عبد الله ، 2006 ، 71 ) .
ويذكر جابر عبد الحميد (1997 ، 32 ) أن معظم اختبارات الذكاء وضعت على أساس النوع الأول وأهملت النوعين الآخرين ، ويوضح ذلك اختبار ثورنديك المعروف CAVD الذى نشره عام 1926 وهو يقيس الذكاء المجرد ، وقد حاول ثورنديك أن يفسر الذكاء فى ضوء الروابط العصبية ، حيث يرى أن الفروق الملاحظة فى سلوك الأفراد ترجع إلى فروق فى عدد الارتباطات العقلية ، وحينما يخطئ الفرد فى تفكيره ، فإن هذا يعني ارتباطاً خاطئاً ، ويفترض ثورنديك أن التدريب ليس له إلا الأثر الضئيل ، أو لا أثر له على القدرة العقلية ، وأن الوراثة لها الأثر الأقوى .
وفى عام 1938 قدم ثرستون Thurstone نظرية لتفسير الذكاء ترفض القول بوجود عامل واحد ، وترى أن هناك عدداً من العوامل العامة ، التى تعبر عن تباينات مختلفة ، تمثل أشكالاً متجانسة من الأداء ، يختص كل منها بصفة تصنيفية واحدة ، أى أن الأداء العقلي يتمثل فى قدرات متعددة ، وتوصلت دراسة ثرستون إلى وجود سبعة عوامل طائفية أطلق عليها القدرات العقلية الأولية وهى : القدرة اللفظية ، القدرة على طلاقة الكلمات ، القدرة العددية ، القدرة التذكرية ، القدرة المكانية ، القدرة الادراكية ، القدرة الاستدلالية . ( سليمان الخضري ، 1990 ، 162 ) .
ولكن نظرية ثرستون تعرضت للنقد ، حيث لم يستخدم محكاً دقيقاً لتحديد الدلالة الإحصائية للعوامل التى توصل إليها ، وبالتالي فإن كثيراً من هذه العوامل تؤثر فيها أخطاء الصدفة ( فؤاد أبو حطب 1990 ، 117 ) . ومع ذلك فإن بحوث ثرستون كان لها الأثر البالغ فى توسيع مفهوم الذكاء ، وتطوير أدوات قياسه .
أما كاتل Cattel فقد اقترح فرضاً عاماً يتلخص فى أنه لا يوجد فى الميدان العقلي المعرفي عامل واحد وإنما عاملان ، أطلق على الأول " القدرة العامة السائلة وعلى الآخر
" القدرة العامة المتبلورة " ، ويرى " كاتل " أن العامل العام الدال على الذكاء المتبلور يتشبع تشبعاً عالياً بالأنشطة العقلية المعرفية ، التى تتبلور فيها الأحكام الذكية ، على هيئة عادات ، أما الذكاء السائل فهو يساعد الفرد على تذكر الاستجابات السابقة ؛ مما يعينه على إصدار أحكام جديدة . وقد وجه كل من جيلفورد Guilford وفرنون Vernon نقداً شديداً لنظرية كاتل على أساس أن التدوير المتعامد يؤكد أن العاملين اللذين يعدهما كاتل من نوع العوامل العامة هما فى الواقع أقرب إلى العوامل الطائفية . ( فؤاد أبو حطب ، 1996 ، 159 – 161 ) .
ونلاحظ من جميع النماذج السابقة لبنية العقل أنها استندت إلى مدخل الفروق الفردية ، الذى يهتم بقياس الفروق بين الأفراد فى القدرات ، وليس بتفسير هذه الفروق .
وقد ناقش جيلفورد Guilford الاتجاه الأحادي فى فهم الذكاء ورفضه ، وافترض نموذجاَ للبناء العقلي كنظرية شاملة للذكاء ، من شأنها أن تعطي تفسيراً للفروق الفردية لأداء الأفراد فى القدرة العقلية ، وهذا النموذج يقوم على أساس تصور وجود ثلاثة أبعاد أساسية للبناء العقلي هى: بعد العمليات ، وبعد المحتوى ، وبعد النواتج ، وينتج عن اتحاد العناصر الفرعية لهذه الأبعاد أنوعا مختلفة من القدرات العقلية . ( فؤاد أبو حطب ، 1996 ، 273 ) .
ولكن ثمة انتقادات وجهت إلى نموذج جيلفورد Guilford منها ، عدم اتساق نتائج بحوث جيلفورد وتلاميذه ، مع نتائج الأبحاث التى قام بها باحثون آخرون ، وكذلك عدم التأكد من مدى تداخل القدرات العقلية التى يشملها نموذجه ، ورفضه وجود تنظيم هرمي ، أو تداخل بين عوامل البناء العقلي . ويرى "أيزنك" Eysenk أن نموذج جيلفورد يمكن تبسيطه بعدد من العوامل المتداخلة تتلخص فى :
1- وجود عوامل طائفية مماثلة للقدرات العقلية الأولية عند سرستون .
2- أن هذه العوامل الطائفية بدورها تبرر وجود عامل عام للذكاء ، يماثل العامل العام عند سبيرمان . (على ماهر خطاب ، عبد العاطي الصياد 1990 ، 704 – 706 ) .
وعلى الرغم من أن هذه النظريات قدمت الكثير من المفاهيم التى أثرت البحث التربوي ، وقدمت اختبارات لعبت دوراً محورياً فى التنبؤ بالتحصيل الدراسي للتلاميذ ، مثل اختبار وكسلر واختبار ستانفورد بينيه ، إلا أنه قد وجهت لها انتقادات كثيرة ، حيث جعلت مفهوم الذكاء مقصوراً على الجانب المعرفي فقط ، وأصبح مرادفاً لمفهوم التحصيل ، أو مرتبطاً به بدرجة كبيرة ، ويرى وينبرج Weinberg1989 , 89)) أنه على الرغم من النجاح الذى حققته اختبارات الذكاء التقليدية فى مجالات عديدة ، كالتعليم والصناعة وغيرها ، إلا أن معظمها يعد ضعيفاً ، لا يستند إلى إطار نظري ؛ مما دفع الباحثين إلى إهمال دراسة هذا المفهوم ، وصدقه ، وتعريفه الدقيق .
ويؤكد تورجسن (1989 , 485) Torgesen أن الاتجاهات التقليدية فى دراسة الذكاء وقياسه تتسم بالضعف ، وتثير أمامنا العديد من المشكلات النابعة من عدم قدرتها على كشف العمليات المعرفية التى تكمن وراء الأداء ، وكذلك الفشل فى توضيح طبيعة هذه العمليات .
ويرى فؤاد أبو حطب (1996 ، 39 ) أنه على الرغم من أن هذه الاختبارات التقليدية للذكاء يمكنها التنبؤ بالتحصيل ، إلا أن مفهوم التحصيل فى ظل هذا الاتجاه يعد من المفاهيم الوصفية وليس التفسيرية ، كما أن هذه الاختبارات لم تفسر لنا الأداء كما ينبغي ، وتركت العديد من الأسئلة بلا إجابة .
ويضيف أرمسترونج Armstrong (1999 , 32 ) أن هذه النظريات اهتمت بدراسة البناء أو الشكل الذى ينتظم فيه العقل الإنساني ، عن طريق الكشف عن العوامل التى يمثلها مفهوم الذكاء ، وكيفية انتظام هذه العوامل فى أشكال متباينة قد تكون على شكل تنظيم هرمي أو مكعب ، كما أنها اقتصرت على دراسة جانب واحد من الذكاء .
ونتيجة لهذا النقد الكبير الذى وجه للاتجاه التقليدي فى دراسة الذكاء ، وكرد فعل لسلبيات هذا الاتجاه ، وما نتج عنه من ممارسات تعليمية خاطئة ، سادت لفترة طويلة من الزمن ، فقد حدث تغير فى اتجاه وأفكار بعض علماء النفس ، وبرزت على السطح اتجاهات أخرى فى دراسة النشاط العقلي الإنساني منها اتجاه الذكاءات المتعددة .
ويرى محمد غازى الدسوقي (2002 ، 50) أن الفضل فى تقديم الذكاءات المتعددة يرجع لفؤاد أبو حطب حيث عرض تصوراً جديداً لأنواع الذكاء ، يتضمن الذكاء الموضوعي ، والذكاء الاجتماعي ، والذكاء الشخصي ، ثم ظهرت نظرية جاردنر للذكاءات المتعددة .
ثانياً : نظرية الذكاءات المتعددة لجاردنر :
انتقد جاردنر Gardner الاتجاه التقليدي فى دراسة الذكاء وقياسه ، ودحض فكرة نسبة الذكاء (IQ) بوصفه عاملاً وحيداً ثابتاً ، وبدلاً من البحث عن مقياس واحد لقياس الذكاء قياساً كمياً حاول جاردنر أن يستكشف الطريقة التى يقيم بها الأفراد فى ثقافات معينة ، وكذلك الطريقة التى يقدم بها الأفراد منتجات مختلفة ، أو يخدمون ثقافاتهم فى قدرات متنوعة ، وقال فى هذا الصدد :
"من أجل تطوير هذه النظرية لم أبدأ بتفحص الاختبارات الموجودة بين أيدينا ، لم أكن مهتماً بالتنبؤ بالنجاح أو الرسوب فى المدرسة ... بدلاً من ذلك كان أول ما ورد إلى خاطري ، أن هناك أنواعاً مختلفة من العقول ، قادتني لأن أختبر الحالات النهائية المتميزة بأكبر قدر من الشمولية ، ثم أسعي إلى التوصل إلى نموذج قد يساعدنا على إحراز تقدم فى تفسير الكيفية التى يصبح بها الكائن الإنساني ذا كفاءة عالية فى هذه الأنواع المختلفة من القدرات ". ( هارفي ف . سيلفر وآخران ، 2006 ، 7 ) .
أى أن طريقة جاردنر لدراسة الذكاء هى أنه يستكشف الطرق التى تقيم بها الثقافات المختلفة الأفراد ، والطرق التى يبتكر بها الأفراد منتجات مختلفة لثقافاتهم . وبالتالي عرّف جاردنر Gardner (2000 , 77 )الذكاء بأنه : " القدرة على حل المشكلات التى تواجه المرء فى الحياة ، أو تقديم إنتاج له أهمية فى جوانب متعددة ، مثل الشعر ، والموسيقي ، والرسم ، والرياضة ... الخ " .
وانحصر نقد جاردنر Gardner(1993, 23) للاختبارات التى أفرزها الاتجاه التقليدي لقياس الذكاء فى أنها :
1- لم تشمل كل جوانب الذكاء ، بل اقتصرت على القدرات الأكاديمية .
2- بها مشكلات تتعلق بتحيز بنودها لثقافات دون غيرها ؛ مما يجعلها مقاييس غير عادلة .
3- تقيس الذكاء فى نطاق أحادي ذى مدى ضيق ، بمعني أننا قد نصف تلميذاً بأنه ذكي / بارع ، وآخر غبي / بليد ، رغم أن كلاً منهما له بروفيل خاص من الذكاءات ، يتفوق فى جانب ، ويصبح ضعيفاً فى جانب ، ويمكن الإفادة من نقاط القوة فى تنمية وتطوير جوانب الضعف لدي المتعلم .
من أعظم النعم التى كرم الله بها الإنسان أن حباه عقلاً معجزاً فى ملكاته وإنجازاته ، بما أودعه فى هذا العقل من قدرات تعمل وتتفاعل فيما بينها فى تنسيق إلهي متكامل ، مما دعا الباحثين فى علم النفس إلى الاهتمام بالجانب العقلي المعرفي للإنسان ، وكان موضوع الذكاء من الموضوعات التى استمر الجدال والخلاف حولها لسنوات طويلة ، ومن ثمرة هذا الخلاف ظهور نظريات واتجاهات عديدة حاولت فهم وتفسير العقل البشري منها الاتجاه التقليدي لدراسة الذكاء وقياسه ، واتجاه الذكاءات المتعددة .
أولاً : الاتجاه التقليدي لدراسة الذكاء :
طبقاً لهذا الاتجاه فإن الذكاء هو قدرة معرفية موحدة ، يولد بها الأفراد ، وهذه القدرة
يمكن قياسها بسهولة ، من خلال الاختبارات التى تتضمن أسئلة ذات إجابات قصيرة
( Gardner, 1983 , 13) .
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الذكاء يظل ثابتاً فى كل المواقف ، وهذا يعنى أن ذكاء الفرد لا يتغير سواء أكان يحل مشكلة حسابية ، أم يتعلم كيف يتزحلق على الجليد ، أم يحاول أن يجد طريقه فى مدينة جديدة . (Krechevsky, 1998 , 121) .
والجدير بالذكر أن هذا الاتجاه التقليدي قد أفرز الكثير من النظريات ؛ منها نظرية العامل الواحد ، والتى ترى أن هناك عاملاً عاماً يقف خلف جميع أساليب النشاط العقلي ، وبالتالي يمكن فى ضوئه الحكم على مستوى النمو العقلي للفرد ، وقد أخذ بهذه النظرية " ألفريد بينيه "Binet " وتيرمان Terman.
وأكد فؤاد أبو حطب (فتحي مصطفي الزيات ، 1995) أن منظور العامل الواحد لم يقدم تفسيراً مقنعاً للنشاط العقلي ومكوناته ومحدداته ، فضلاً عن أن هذه النظرية لم تخضع منهجياً أو إجرائياً لدرجة كافية من التجريب مما دعا إلى ظهور نظرية العاملين التى قدمها سبيرمان والتى تقوم على الافتراضات التالية :
- أن هناك علاقات موجبة بين مختلف صور النشاط العقلي .
- أنه أياً كان أسلوب النشاط العقلي فإنه يتمايز فى عاملين : عامل عام ، وعامل نوعي خاص.
ويرى حسنى الجبالي (1997 ، 22) أن العامل العام فطري وراثي لا يتأثر بالبيئة ، وإلى جانب هذا العامل العام والذى يمثل القدر المشترك لأى نشاط عقلي يوجد عامل خاص هو الذى يميز هذا النوع من النشاط عن غيره ..
ولكن هذه النظرية تعرضت لنقد شديد على يد ثورنديك Thorndik ولم يبق لها إلا قيمتها التاريخية فقط ، حيث يري أن العامل العام الذى نادي به سبيرمان لا يفسر تباين أداء الفرد من نشاط عقلي إلى نشاط عقلي آخر ، لذلك نظر ثورنديك إلى الذكاء على أنه عدد من القدرات الخاصة ، التى تميز السلوك الذكي ، وصنف القدرات المكونة للنشاط العقلي على النحو التالى :
- القدرة على التجريد .
- القدرة الميكانيكية .
- القدرة على التكيف الاجتماعي . (محمد حسن عبد الله ، 2006 ، 71 ) .
ويذكر جابر عبد الحميد (1997 ، 32 ) أن معظم اختبارات الذكاء وضعت على أساس النوع الأول وأهملت النوعين الآخرين ، ويوضح ذلك اختبار ثورنديك المعروف CAVD الذى نشره عام 1926 وهو يقيس الذكاء المجرد ، وقد حاول ثورنديك أن يفسر الذكاء فى ضوء الروابط العصبية ، حيث يرى أن الفروق الملاحظة فى سلوك الأفراد ترجع إلى فروق فى عدد الارتباطات العقلية ، وحينما يخطئ الفرد فى تفكيره ، فإن هذا يعني ارتباطاً خاطئاً ، ويفترض ثورنديك أن التدريب ليس له إلا الأثر الضئيل ، أو لا أثر له على القدرة العقلية ، وأن الوراثة لها الأثر الأقوى .
وفى عام 1938 قدم ثرستون Thurstone نظرية لتفسير الذكاء ترفض القول بوجود عامل واحد ، وترى أن هناك عدداً من العوامل العامة ، التى تعبر عن تباينات مختلفة ، تمثل أشكالاً متجانسة من الأداء ، يختص كل منها بصفة تصنيفية واحدة ، أى أن الأداء العقلي يتمثل فى قدرات متعددة ، وتوصلت دراسة ثرستون إلى وجود سبعة عوامل طائفية أطلق عليها القدرات العقلية الأولية وهى : القدرة اللفظية ، القدرة على طلاقة الكلمات ، القدرة العددية ، القدرة التذكرية ، القدرة المكانية ، القدرة الادراكية ، القدرة الاستدلالية . ( سليمان الخضري ، 1990 ، 162 ) .
ولكن نظرية ثرستون تعرضت للنقد ، حيث لم يستخدم محكاً دقيقاً لتحديد الدلالة الإحصائية للعوامل التى توصل إليها ، وبالتالي فإن كثيراً من هذه العوامل تؤثر فيها أخطاء الصدفة ( فؤاد أبو حطب 1990 ، 117 ) . ومع ذلك فإن بحوث ثرستون كان لها الأثر البالغ فى توسيع مفهوم الذكاء ، وتطوير أدوات قياسه .
أما كاتل Cattel فقد اقترح فرضاً عاماً يتلخص فى أنه لا يوجد فى الميدان العقلي المعرفي عامل واحد وإنما عاملان ، أطلق على الأول " القدرة العامة السائلة وعلى الآخر
" القدرة العامة المتبلورة " ، ويرى " كاتل " أن العامل العام الدال على الذكاء المتبلور يتشبع تشبعاً عالياً بالأنشطة العقلية المعرفية ، التى تتبلور فيها الأحكام الذكية ، على هيئة عادات ، أما الذكاء السائل فهو يساعد الفرد على تذكر الاستجابات السابقة ؛ مما يعينه على إصدار أحكام جديدة . وقد وجه كل من جيلفورد Guilford وفرنون Vernon نقداً شديداً لنظرية كاتل على أساس أن التدوير المتعامد يؤكد أن العاملين اللذين يعدهما كاتل من نوع العوامل العامة هما فى الواقع أقرب إلى العوامل الطائفية . ( فؤاد أبو حطب ، 1996 ، 159 – 161 ) .
ونلاحظ من جميع النماذج السابقة لبنية العقل أنها استندت إلى مدخل الفروق الفردية ، الذى يهتم بقياس الفروق بين الأفراد فى القدرات ، وليس بتفسير هذه الفروق .
وقد ناقش جيلفورد Guilford الاتجاه الأحادي فى فهم الذكاء ورفضه ، وافترض نموذجاَ للبناء العقلي كنظرية شاملة للذكاء ، من شأنها أن تعطي تفسيراً للفروق الفردية لأداء الأفراد فى القدرة العقلية ، وهذا النموذج يقوم على أساس تصور وجود ثلاثة أبعاد أساسية للبناء العقلي هى: بعد العمليات ، وبعد المحتوى ، وبعد النواتج ، وينتج عن اتحاد العناصر الفرعية لهذه الأبعاد أنوعا مختلفة من القدرات العقلية . ( فؤاد أبو حطب ، 1996 ، 273 ) .
ولكن ثمة انتقادات وجهت إلى نموذج جيلفورد Guilford منها ، عدم اتساق نتائج بحوث جيلفورد وتلاميذه ، مع نتائج الأبحاث التى قام بها باحثون آخرون ، وكذلك عدم التأكد من مدى تداخل القدرات العقلية التى يشملها نموذجه ، ورفضه وجود تنظيم هرمي ، أو تداخل بين عوامل البناء العقلي . ويرى "أيزنك" Eysenk أن نموذج جيلفورد يمكن تبسيطه بعدد من العوامل المتداخلة تتلخص فى :
1- وجود عوامل طائفية مماثلة للقدرات العقلية الأولية عند سرستون .
2- أن هذه العوامل الطائفية بدورها تبرر وجود عامل عام للذكاء ، يماثل العامل العام عند سبيرمان . (على ماهر خطاب ، عبد العاطي الصياد 1990 ، 704 – 706 ) .
وعلى الرغم من أن هذه النظريات قدمت الكثير من المفاهيم التى أثرت البحث التربوي ، وقدمت اختبارات لعبت دوراً محورياً فى التنبؤ بالتحصيل الدراسي للتلاميذ ، مثل اختبار وكسلر واختبار ستانفورد بينيه ، إلا أنه قد وجهت لها انتقادات كثيرة ، حيث جعلت مفهوم الذكاء مقصوراً على الجانب المعرفي فقط ، وأصبح مرادفاً لمفهوم التحصيل ، أو مرتبطاً به بدرجة كبيرة ، ويرى وينبرج Weinberg1989 , 89)) أنه على الرغم من النجاح الذى حققته اختبارات الذكاء التقليدية فى مجالات عديدة ، كالتعليم والصناعة وغيرها ، إلا أن معظمها يعد ضعيفاً ، لا يستند إلى إطار نظري ؛ مما دفع الباحثين إلى إهمال دراسة هذا المفهوم ، وصدقه ، وتعريفه الدقيق .
ويؤكد تورجسن (1989 , 485) Torgesen أن الاتجاهات التقليدية فى دراسة الذكاء وقياسه تتسم بالضعف ، وتثير أمامنا العديد من المشكلات النابعة من عدم قدرتها على كشف العمليات المعرفية التى تكمن وراء الأداء ، وكذلك الفشل فى توضيح طبيعة هذه العمليات .
ويرى فؤاد أبو حطب (1996 ، 39 ) أنه على الرغم من أن هذه الاختبارات التقليدية للذكاء يمكنها التنبؤ بالتحصيل ، إلا أن مفهوم التحصيل فى ظل هذا الاتجاه يعد من المفاهيم الوصفية وليس التفسيرية ، كما أن هذه الاختبارات لم تفسر لنا الأداء كما ينبغي ، وتركت العديد من الأسئلة بلا إجابة .
ويضيف أرمسترونج Armstrong (1999 , 32 ) أن هذه النظريات اهتمت بدراسة البناء أو الشكل الذى ينتظم فيه العقل الإنساني ، عن طريق الكشف عن العوامل التى يمثلها مفهوم الذكاء ، وكيفية انتظام هذه العوامل فى أشكال متباينة قد تكون على شكل تنظيم هرمي أو مكعب ، كما أنها اقتصرت على دراسة جانب واحد من الذكاء .
ونتيجة لهذا النقد الكبير الذى وجه للاتجاه التقليدي فى دراسة الذكاء ، وكرد فعل لسلبيات هذا الاتجاه ، وما نتج عنه من ممارسات تعليمية خاطئة ، سادت لفترة طويلة من الزمن ، فقد حدث تغير فى اتجاه وأفكار بعض علماء النفس ، وبرزت على السطح اتجاهات أخرى فى دراسة النشاط العقلي الإنساني منها اتجاه الذكاءات المتعددة .
ويرى محمد غازى الدسوقي (2002 ، 50) أن الفضل فى تقديم الذكاءات المتعددة يرجع لفؤاد أبو حطب حيث عرض تصوراً جديداً لأنواع الذكاء ، يتضمن الذكاء الموضوعي ، والذكاء الاجتماعي ، والذكاء الشخصي ، ثم ظهرت نظرية جاردنر للذكاءات المتعددة .
ثانياً : نظرية الذكاءات المتعددة لجاردنر :
انتقد جاردنر Gardner الاتجاه التقليدي فى دراسة الذكاء وقياسه ، ودحض فكرة نسبة الذكاء (IQ) بوصفه عاملاً وحيداً ثابتاً ، وبدلاً من البحث عن مقياس واحد لقياس الذكاء قياساً كمياً حاول جاردنر أن يستكشف الطريقة التى يقيم بها الأفراد فى ثقافات معينة ، وكذلك الطريقة التى يقدم بها الأفراد منتجات مختلفة ، أو يخدمون ثقافاتهم فى قدرات متنوعة ، وقال فى هذا الصدد :
"من أجل تطوير هذه النظرية لم أبدأ بتفحص الاختبارات الموجودة بين أيدينا ، لم أكن مهتماً بالتنبؤ بالنجاح أو الرسوب فى المدرسة ... بدلاً من ذلك كان أول ما ورد إلى خاطري ، أن هناك أنواعاً مختلفة من العقول ، قادتني لأن أختبر الحالات النهائية المتميزة بأكبر قدر من الشمولية ، ثم أسعي إلى التوصل إلى نموذج قد يساعدنا على إحراز تقدم فى تفسير الكيفية التى يصبح بها الكائن الإنساني ذا كفاءة عالية فى هذه الأنواع المختلفة من القدرات ". ( هارفي ف . سيلفر وآخران ، 2006 ، 7 ) .
أى أن طريقة جاردنر لدراسة الذكاء هى أنه يستكشف الطرق التى تقيم بها الثقافات المختلفة الأفراد ، والطرق التى يبتكر بها الأفراد منتجات مختلفة لثقافاتهم . وبالتالي عرّف جاردنر Gardner (2000 , 77 )الذكاء بأنه : " القدرة على حل المشكلات التى تواجه المرء فى الحياة ، أو تقديم إنتاج له أهمية فى جوانب متعددة ، مثل الشعر ، والموسيقي ، والرسم ، والرياضة ... الخ " .
وانحصر نقد جاردنر Gardner(1993, 23) للاختبارات التى أفرزها الاتجاه التقليدي لقياس الذكاء فى أنها :
1- لم تشمل كل جوانب الذكاء ، بل اقتصرت على القدرات الأكاديمية .
2- بها مشكلات تتعلق بتحيز بنودها لثقافات دون غيرها ؛ مما يجعلها مقاييس غير عادلة .
3- تقيس الذكاء فى نطاق أحادي ذى مدى ضيق ، بمعني أننا قد نصف تلميذاً بأنه ذكي / بارع ، وآخر غبي / بليد ، رغم أن كلاً منهما له بروفيل خاص من الذكاءات ، يتفوق فى جانب ، ويصبح ضعيفاً فى جانب ، ويمكن الإفادة من نقاط القوة فى تنمية وتطوير جوانب الضعف لدي المتعلم .