وصل بافلوف إلى قوانين تحكم شطرا كبيرا من سلوك
الإنسان ( برتراند رسل ) .
تكمن مأثرة بافلوف الرائعة في اكتشافه الصيغة
الجديدة الأكثر تعقيدا للمنعكسات الشرطية (ل.روكهولن )
يرتبط الاكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس
الشرطي Réflexe conditionnel باسم عالم النفس السوفيتي
الشهير إيفان بيتروفيتش بافلوف ( 1849-1936) رائد
الأبحاث العلمية حول فيزيولوجيا النشاطات العصبية الحركية . ( Physiologie de l'activité nerveuse supérieure ) والذي استطاع عبر نشاطاته في
هذا الميدان أن يترك آثارا كبيرة في نظريات وآراء علماء الفيزيولوجيا وعلم النفس
الفيزيولوجي على مدى القرن العشرين برمته . وتكريما لجهوده الكبيرة في هذا الميدان
حظي بافلوف
بتقدير المؤتمر الخامس عشر الدولي لعلم النفس الفيزيولوجي الذي عقد في روما عام 1932 وذلك اعترافا بفضله الكبير وجهوده
الخلاقة المبذولة التي كان لها أثر كبير على مسيرة علم الفيزيولوجيا الحديث.
ولد بافلوف في ريازان عام Riazan 1849وانتسب إلى جامعة سانت
بيترسبورغ Saint-Petersbourg، ثم حصل على الدكتوراه عام 1884 أي في الخامس والثلاثين من عمره
وذلك في مجال فيزيولوجيا الأعصاب. شغل
بعدها كرسي الأستاذية ورئيس مخبر الفيزيولوجيا في المعهد العالي الطبي في الجامعة
نفسها.
حاز
إيفان بافلوف على جائزة نوبل عام 1904 وذلك اعترافا بفضل إنجازاته العلمية في
ميدان الفيزيولوجيا وخاصة في مجال الجهاز الهضمي والدورة الدموية. ونال تقدير
القيادة الثورية في الإتحاد السوفيتي. واعترافا بفضله نقلت مخابره إلى كولتوشي Koltouche والتي تدعى اليوم بافلوف نسبة إلى بافلوف، وهي مدينة تقع بالغرب من ليننغراد . ويأخذ
بافلوف مكانه بوصفه الأب الحقيقي لعلم الفيزيولوجيا وعلم النفس الحديث في الإتحاد
السوفييتي سابقا .
يعتقد بافلوف أن النشاطات النفسية المركبة نتاج
للعلاقة بين العضوية والوسط وليست شيئا آخر غير ردود الأفعال المنعكسة الشرطية
التي تجسد استجابة العضوية إزاء الوسط الذي توجد فيه والذي يمثل بدوره عاملا
خارجيا فإلى جانب الأفعال المنعكسة الفطرية والتي تستند إلى أسس تشريحية بيولوجية
توجد أفعال منعكسة مكتسبة
شرطيه تعبر عن الأشكال الأكثر تطورا للنشاطات الإنسانية .
وتجسدت فكرة بافلوف هذه في اكتشافاته الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية والتي كان لها أثر كبير في
بناء نظريته الجديدة حول الحياة النفسية. لقد حاول في أعماله أن يجيب عن مسألته
المركزية والتي تتمثل في طبيعة العلاقة بين الدماغ والنشاطات النفسية وهو يقول في
هذا الصدد" ألا يمكن لنا أن نجد مظاهر نفسية أولية يمكنها في الوقت نفسه أن تكون وعلى نحو
كلي ظاهرة فيزيولوجية " وانطلاقا من ذلك كان بافلوف يتساءل عن إمكانية
إجراء دراسة جادة ودقيقة تسعى إلى الكشف عن شروط وجود هذه الظاهرة في سياق مركباتها واختلاطاتها .
بدأت قصة الكشف عن الفعل المنعكس الشرطي عندما كان
بافلوف يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية عند الكلب حيث لاحظ أن لعاب الكلب
بدأ بالسيلان قبل وصول الطعام ( قطعة اللحم ) إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد
رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته . ومع أن هذه
الملاحظة عادية وبسيطة إلا أن بافلوف وجد فيها منطلقه للبحث في وظيفة الدماغ وهيأت
له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية دون اللجوء إلى الطريقة المعهودة عند
علماء الفيزيولوجيا الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ وإزالة بعض جوانبه من أجل إدراك وظائف الأجزاء المبتورة .
ومن هذا المنطلق قيل أن عظمة بافلوف تكمن في قدرته على اكتشاف أهمية ظاهرة تبدو بسيطة من حيث
المظهر وأن هذه القدرة على التبصر العبقري مكنته من الوصول إلى تبصرات عبقرية
جديدة في مجال فيزيولوجيا الدماغ نفسه .
ومن هذا المنطلق بدأ بافلوف أبحاثه حول الدورة
الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي واستطاع عبر هذه الأبحاث والتحارب
الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن يصل إلى اكتشافه العظيم حول
الأفعال المنعكسة الشرطية ( Réflexes conditionnelles ) لقد لاحظ بافلوف في إطار
تجاربه العلمية أن الفعل المنعكس الخاص بسيلان اللعاب لا يتم على أثر الاحتكاك
المباشر بين الطعام والغدد اللعابية الفموية فحسب بل أن ذلك يتم أيضا تحت تأثير
بعض الإشارات التي ترتبط عفويا بالمثيرات الطبيعية وذلك مثل الأصوات التي تسبق وجبة الطعام . ويعطي بافلوف للفعل المنعكس عن بعد وهي ردود
الفعل الناجمة عن إشارات وأصوات تسمية الأفعال المنعكسة الشرطية Réflexes conditionnelles) . وتبين فيما بعد
لبافلوف أن الاستجابات
العصبية للفعل المنعكس الخاصة بسيلان اللعاب لا ترتبط بالعوامل الفيزيولوجية
الخاصة فحسب ( و هذا يعني العوامل التي تقوم بعملية التحريض على نحو مباشر ) بل
ترتبط بعوامل نفسية أيضا . و هو في هذا
السياق يوظف مفهوم " اللعاب النفسي Sécrétion
Psychique)) و ذلك في إطار محاضراته حول إفرازات الغدد اللعابية
و الهضمية و ذلك في عام (1897 ) .
ومن جهة أخرى وجد بافلوف فرصته في اختبار العلاقة
بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية، فسيلان اللعاب لمجرد رؤية من يقدم
الطعام أو لمجرد سماع صوته ليس بظاهرة فيزيولوجية لأنه على المستوى الفيزيولوجي لا
علاقة بين الطرفين وأن سيلان اللعاب مرهون على المستوى الفيزيولوجي بالاحتكاك بين الطعام وحليمات اللعاب في الفم . ومن هذا المنطلق أطلق بافلوف على سيلان اللعاب المرتبط
بالمشاهدة اصطلاح اللعاب النفسي وهو يريد بذلك أن يشير إلى أن السلوك
الحادث هو سلوك نفسي وليس فيزيولوجي وذلك لغياب العلاقة الموضوعية فيزيولوجيا بين
المشاهدة وإفرازات
اللعاب .
وفي هذا
المسار حاول بافلوف أن يدرس العلاقة الجوهرية بين الظاهرة النفسية والظاهرة
الفيزيولوجية عن طريق اكتشاف العلاقة بين المثيرات الخارجية ووظائف الدماغ العصبية
العليا . لقد اعتقد فرويد أن حدوث الإفرازات النفسية
تؤدي إلى بناء علاقات جديدة تسجل في لحاء المخ أو في القشرة الدماغية عند الحيوانات العليا . وهو بذلك كله يريد أن يبرهن بأن السلوك النفسي عند
الإنسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها اللحاء المخي عند الإنسان أو
الحيوانات العليا .
وعلى أثر هذه الملاحظات الخاصة بإفرازات اللعاب
أجرى بافلوف سلسلة متواصلة من التجارب على الكلاب من أجل التحديد العلمي لحركة هذه
الظاهرة ورسم تجلياتها في صورة قوانين علمية واضحة قام على أثرها بتحديد المفاهيم
الأساسية لنظريته هذه الخاصة بالتعزيز والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.
لقد أطلق بافلوف على المثير الطبيعي للطعام المثير غير الشرطي وعلى الاستجابة الطبيعية الاستجابة غير الشرطية ،
ثم أطلق على المثير الخارجي (صوت الجرس ) المثير الشرطي وعلى
الاستجابة غير الطبيعية ( سيلان اللعاب
لمجرد سماع صوت الجرس ) الاستجابة الشرطية
ويمكن توضيح جوانب المسألة بالمثال التالي :
م1- مثير طبيعي ( قطعة اللحم ) ------ استجابة
طبيعية ( إفراز اللعاب )س1
م2مثير شرطي ( صوت الجرس ) ------- استجابة طبيعية
( السماع) س2
مثير طبيعي (قطعة اللحم ) + مثير شرطي( صوت الجرس
) + تكرار الارتباط يؤدي إلى استجابة شرطية هي إفراز اللعاب .
وبطريقة أخرى يمكن صياغة المعادلة التالية :
م1+م2ومع التكرار ـــــ
س1+س2 وبالنتيجة م2ـــــــ س1.
يبن المخطط السابق أن المثير الذي كان حياديا (رنين
الجرس ) وبفعل الترابط يستطيع أن يلعب دور المثير الطبيعي الذي هو قطعة اللحم وأن يؤدي
إلى استجابة شرطية هي سيلان اللعاب عند الكلب .
ومع أن هذه التجربة تبدو يبدو وكأنها ساذجة أو
تحصيل حاصل في معطياتها إلا أنها تمثل على المستوى العلمي ابتكارا في
غاية الأهمية والخطورة . لقد حاول بافلوف ومن حذا حذوه أن يبرهن بأن منظومة
سلوكنا وأفاعيلنا ومشاعرنا هي نتاج موضوعي للعلاقات الاستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية عند
الإنسان وهو بذلك يسعى إلى التأكيد على مقولة الوحدة الديالكتيكية بين الوجود
المادي والوجود النفسي عند الإنسان وأن الحياة النفسية هي ارتكاسات عصبية للعلاقة
الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية .
وترتب على بافلوف أن يحدد منظومة مفاهيمه الخاصة
بنظرية الارتكاسات الشرطية وخاصة هذه التي تتعلق بكيفية بناء الاستجابة الشرطية وحدودها ومدى استمرارية هذه
الاستجابات في مدار الزمن وكيفية حدوث الانطفاء
والتعزيز والتعميم ويجمل بنا في هذا السياق أن ننوه إلى بعض المحاور الخاصة بالمفاهيم المركزية لهذه النظرية .
بادئ ذي بدء يرتهن بناء الاستجابة الشرطية بعدد من فعاليات الارتباط بين مثيرين
والصورة العلمية التي يقدمها بافلوف عبر تجاربه تأخذ المخطط التالي الذي يبين
الصورة الإشراطية للعلاقة بين صوت الجرس مقترنا بتقديم الطعام وعدد نقاط اللعاب
عند الكلب ويطلق على هذه العملية عملية التعزيز Renforcement :
تعزيز الاستجابة الشرطية
تقديم الصوت والطعام | عدد نقاط اللعاب في ثلاثين ثانية |
1 | 0 |
9 | 18 |
15 | 30 |
31 | 65 |
41 | 64 |
51 | 69 |
يبين المخطط السابق أن عملية اقترن المثيرين قد
تمت بصورة أكيدة خلال 51 مرة من مرات تقديم الطعام .
ولكن هذه العملية التعزيزية يقابلها ما يسمى بعملية الانطفاء Extinction ويشير
هذا المفهوم إلى اضمحلال وتلاشي الاستجابة الشرطية حين تتوقف عملية التعزيز
السابقة بصورة مستمرة ، ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز دائما أو بصورة متقطعة
ليحافظ على فعاليته في إحداث الإرتكاس أو الاستجابة الشرطية وفيما يلي مخطط الانطفاء التجريبي الذي
رسمه بافلوف خلال تجاربه المستمرة . وقوام هذه التجربة تعريض الكلب لرنين الجرس دون تقديم الطعام له :
الانطفاء Extinction
رقم التجربة | الزمن بالثانية | نقط اللعاب |
1 | 12،7 | 13 |
2 | 12،10 | 7 |
3 | 12،13 | 5 |
4 | 12،16 | 6 |
5 | 12،19 | 3 |
6 | 12،22 | 2،5 |
7 | 12،25 | - |
8 | 12،27 | - |
يظهر المخطط السابق أن تناقص نقاط اللعاب بتزايد
رقم التجربة حتى يصل إلى الصفر وهي حالة الانطفاء الكاملة التي ينوه بافلوف إلى وجودها .
ومع ذلك فإن بافلوف يشير إلى نوعين من الانطفاء وهما:
1- الانطفاء الداخلي الناجم عن غياب تقديم الطعام
كما هو مبين في التجربة .
2- انطفاء خارجي ويعود
إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة أثناء التجربة وبشكل مفاجئ.
إذن يحدد بافلوف الشروط الأساسية لظهور ما يطلق
عليه الاستجابة الشرطية
وعلى خلاف الاستجابة الطبيعية ترتبط هذه بعملية ارتباط بين مثير طبيعي ومثير حيادي
. على سبيل المثال عندما يرتبط تقدم الطعام برنة جرس فإن رنين الجرس يستطيع بمفرده
أن يؤدي إلى سيلان لعاب الحيوان ولكن إذا حدث أن رنين الجرس لا يترافق مع تقدم
الطعام فإن قدرة الجرس على الإثارة تنخفض تدريجيا إلى حد الزوال.
ولاحظ بافلوف في هذا السياق أنه عندما يتم إثارة
اللعاب وفقا لصوت جرس معين فإن الأصوات المقاربة للذبذبة الصوتية المعينة يمكنها
أن تؤدي إلى النتيجة نفسها وهذا ما يطلق عليه بافلوف مفهوم التعميم " Généralisation " ويبحث بافلوف عن
صيغة متكاملة للمثيرات وذلك من أجل الإشارة إلى عملية تحول طاقة ردود الفعل من
مثير إلى آخر ومن ثم عمل فيما بعد على
تحليل هذه المثيرات من أجل اكتشاف الفروق القائمة بينها. وقد قدر لبافلوف ومعاونيه
دراسة المظاهر الأساسية للفعل المنعكس الشرطي وذلك من خلال الاستجابات اللعابية عند الكلاب وبينت أبحاثهم
اللاحقة أن هذه النتائج تنسحب على عدد آخر من الاستجابات .
الاستجابات
الشرطية والسلوك الإنساني :
ينظر بافلوف إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها
من أنماط سلوكية بوصفها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية محددة بزمان ومكان معينين .
ويعتقد بافلوف أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين
كل ظواهر الطبيعة ويرى أن النظام الإنساني
هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي
والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية . فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور
الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما . فالسلوك
الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات الشرطية وهي صناعة ممكنة أي أنه يمكن لنا
التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مخبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم
التحكم بشروط الحياة الاجتماعية . فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعاداتنا
وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتاج لعملية تشريط
اجتماعية تربوية بعيدة
المدى وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الإشراط ومبدأ الارتكاسات
الشرطية التي بين أسرار حركتها في مخابره وتجاربه الطويلة .
لقد بين بافلوف أنه يمكن للتشريط الارتكاسي إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية
وأنه وعلى خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية .
فالإنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دلالية
من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة . فالكلام يشكل بالنسبة للإنسان نظاما ثابتا من
الدلالات الذي يتمايز به الإنسان عن الحيوان فالكلام هو بالتأكيد الأمر الذي جعل
منا بشرا . فالمثيرات الأولى هي المثيرات الصادرة عن
العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والأحداث الخارجية هي
مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف بالمثيرات الدلالية
من المستوى الثاني والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني وهي الرموز أو
الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان .
المنعكسات
الشرطية ووظائف الدماغ العصبية العليا :
وكان هدف بافلوف الأساسي عبر دراساته حول الفعل
المنعكس الشرطي أن يصل إلى تحديد موضعي للنشاطات العصبية العليا عند الكائن الحي. فالمثير يمكنه أن يطلق عنان عمليات
الإثارة أو الكبح وذلك في مستوى القشرة الدماغية ويمكن لذلك أن ينتشر ليعم المناطق
الدماغية المجاورة .. وفي كلتا الحالتين تنمو عملية إثارة بدرجة كثافة مختلفة وذلك وفقا
لنوعية المثير الحيادي أو الطبيعي. فالترابط المؤقت الذي
يجمع بين مثير طبيعي ومثير شرطي يمثل ترابطا بين مثيرات وليس بين مثير واستجابة
كما يعتقد أنصار السلوكية الأمريكية.
يميز بافلوف بين الفعل المنعكس والفعل المنعكس
الشرطي بصورة فيزيولوجية تتعلق بموقع الاستثارة لكل منهما في الدماغ
. فالعمليات الخاصة بالفعل المنعكس الشرطي تجري في مجال القشرة الدماغية
عند الإنسان وعلى خلاف ذلك فإن الفعل المنعكس (الطبيعي) يجري في المناطق الداخلية
للدماغ ( مناطق تحت اللحاء ) . وبناء على هذه الصورة فإن الفعل المنعكس يكون فطريا وراثيا أما
الفعل المنعكس الشرطي فيأخذ صورة الفعل الثقافي المكتسب والذي لا يخرج في نهاية
الأمر عن مقدماته وشروطه الفيزيولوجية .
ويربط بافلوف بين النماذج العصابية واكتشافاته
الخاصة بالأفعال المنعكسة الشرطية التي أتاحت له اكتشاف ما يسمى بالعصاب
التجريبي" Nervose Expérimentale " وهو عصاب يحدث عندما يتعرض
الحيوان المجرب علية لعمليات إثارة وكبح في آن واحد يقع على أثرها الحيوان فريسة الإثارة البالغة وذلك
لأنه لا يستطيع التمييز بين المثيرات
القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعصاب .
كان لاكتشاف بافلوف الكبير الخاص بالفعل المنعكس الشرطي أن يدفع
الأبحاث النظرية والتجريبية حول التعلم
حيث سادت موضة هذه الأبحاث في
النصف الأول من القرن العشرين، وفي الواقع شكل مفهوم الأفعال المنعكسة الشرطية مهاد
تطور كبير ذو طابع تجريبي لمفهوم الترابط الذي كان أخذ منحى ذهنيا. وغني عن البيان
أيضا أن بافلوف قد بذل أكثر من أي مفكر آخر جهودا كثيرة من أجل تطوير علم النفس
العلمي وذلك عندما يبين لنا إلى أي حد يمكن للتحليل الموضوعي أن يؤدي إلى نتائج
مختلفة عن هذه التي تؤدي إليها التأملات النظرية فحسب.
الجوانب
السيكولوجية الفلسفية
لنظرية بافلوف :
حاول بافلوف في سياق جهوده العلمية الكبيرة وفي
مسار ابتكاراته أن يعزز بعض المنطلقات الأساسية للاتجاهات الفلسفية المادية وأن
ينتصر بما قدمه من نتائج علمية بارعة لتيارات علم النفس التجريبي والفيزيولوجي
الذي طرح نفسه بوصفه الاتجاه الوحيد القادر على تفسير الظاهر النفسية تفسيرا علميا
بعيدا عن خرافات علم النفس التأملي وأساطيره التي تحلق فوق الواقع الموضوعي
للظاهرة النفسية وتضفي إليه مالا ينطوي عليه .
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف تنطوي على رؤية
فلسفية طموحة وأصيله في جوانبه العلمية وهذه الرؤية تعزز في الوقت نفسه اتجاهات
السيكولوجيا النزاعة إلى الارتقاء في صورته العلمية .
فالنظرية البافلوفية تنشد المبادئ التالية :
1- العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة
من وظائفه الأساسية والدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقاها .
وينبني على هذه المسلمة أنه لا يمكن أبدا إدراك العمليات النفسية بصورة علمية على
الأقل بعيدا عن إدراك العمليات التي تتأصل في البنية الدماغية :
فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في لحاء المخ وقشرة الدماغ الموطن
الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا
وانفعالاتنا .
2- الشعور انعكاس للمادة وصورة من صور العالم
الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة باشراطات هذا العالم الذي يتحول
إلى صور دماغية لحائية ذات طابع إشراطي . وبالتالي فإن إدراك الفعل
النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا الفعل النفسي نتاج
التفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يتجسد
بالمناطق الدماغية وخاصة اللحاء الدماغي .
3- المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن
الأفكار والاحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود بصورة مستقلة عن الوعي . وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية والخطورة
في مجالات الصراعات الأيديولوجية الخاصة بالمسألة الأساسية للفلسفة وهي أن المادة سابقة للوعي في الوجود وفي مجال علم النفس أن الصورة الشعورية تولد في
عالم المادة والظروف الخارجية وبعبارة أخرى ما من شيء يمكنه أن يولد في
الشعور إلا كصورة منعكسة من صور العالم المادي .
وباختصار نازع الاختتام يمكن القول أن سيكولوجيا
بافلوف هي انتصار لآراء هوبز الفلسفية فالعمليات العقلية والنفسية قابلة للدراسة
والاختبار بصورة علمية لا مراء فيها . وفي هذه المقولة
يمكن القول بأن نظرية بافلوف واستنادا إلى نتائجها العملية في ميادين الحياة المختلفة قدمت لعلم النفس أساسا علميا صلبا يعتمد
على معطيات العلوم المختلفة من طب وفيزيولوجيا الأعصاب وفيزياء وبذلك يتجسد مسعى
بافلوف لإخراج علم النفس من متاهاته الأسطورية ذات الطابع التأملي الخالص .
تطبيقات
النظرية وتوظيفاتها في مجالات الحياة النفسية والاجتماعية :
لم تعد الأمراض النفسية والعقلية بعيدة عن الفهم
والعلاج منذ أن قدم بافلوف الأساس الفيزيولوجي الواضح لها .
مع أن نظرية بافلوف تنطوي على ابتكارات لا تقل أهمية في مجال
فيزيولوجيا الأعصاب وفي التعلم فإن تطبيقات هذه النظرية وتوظيفاتها النفسية ما
زالت تمثل قطب الرحى من حيث الأهمية .
لقد برهنت هذه النظرية عن إمكانيات هائلة في مجال
المعالجة النفسية وشفاء المرضى العقليين في مجالات متعددة وخاصة في مجال
الهيستيريا والعصاب والفصام والإضرابات العقلية والنفسية بصورة عامه.
وما يؤسف له حقا ، أن
معطيات هذه النظرية القابلة لاستثمارات غير إنسانية ، لقد وظفت بصورة غير إنسانية
وخاصة في عمليات غسل الدماغ ، حيث قدمت هذه النظرية الأسس العلمية لعمليات غسل الدماغ
عن طريق ما يسميه بافلوف العصاب
التجريبي الذي يؤدي إلى هدم الارتباطات الشرطية الموضوعية في المخ ، ويعمل على تصفية ثوابت الارتباطات القائمة وفق نظام جديد
من الشرطية المتنافرة التي يمكن أن تؤدي
ببساطة إلى الخلل العقلي وإلى الفصام والاضطرابات النفسية المتنوعة وخاصة الجنون.
لقد استخدمت معطيات هذه النظرية أثناء الحرب
العالمية الثانية وما تلاها من حروب في تعذيب الأسرى وغسل أدمغتهم بصورة واسعة . كما استخدمت في الحرب بصورة واسعة .
لقد لجأ خبراء علم النفس السوفييت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى توظيف الكلاب
التي تم تشريطها سيكولوجيا على تناول
الطعام تحت الدبابات والعربات حيث كانت الكلاب تجوع لمدة يوم كامل ثم يوضع على
جسدها ألغاما مضادة للدرع ومزودة بهوائي موجه إلى الأعلى بحيث
يؤدي في حال ارتطامه بجسد الدبابة إلى الانفجار . وهكذا
كان يتم إطلاق الكلاب في ساحات المعارك تحت تأثير الجوع والتي كانت تنقض بفعل الارتكاسات
الشرطية البافلوفية على
الدبابات الألمانية فتنشر الرعب والموت في صفوف الألمان النازيين .
وغني عن البيان أن نظرية بافلوف هذه التي دفعت
مسارات البحث في ميادين عدة وجدت فيما بعد تطويرها الأصيل على يد المفكر العبقري
الأمريكي سكنر الذي ابتكر بصورة خلاقة مفهوم الإشراط الإجرائي الذي يعد بحق تتويجا
لنظرية بافلوف وتجاوزا لها في الوقت نفسه حيث استطاع سكنر لاحقا أن يفسر جملة أنماط السلوك الإنساني وفقا
لطريقة جديدة في فهمه لمبدأ الاستجابة الشرطية والتي تتمثل في الاستجابة الإجرائية .
خلاصة :
يقول شكسبير أن الفرد الذي يضع يده على النار لا
يمكنه أن يفكر في القوقاز المتجمد وعلى خلاف ذلك يعلمنا بافلوف أن يبين لنا كيف يستطيع
الإنسان الذي يركز حواسه وأفكاره على المنطقة المتجمدة أن يمسك النار بيده دون أن يشعر بها .
إن الوقوف عند نظرية بافلوف يمثل وقفة في محطة
هامة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع العجلات التاريخية
للمعرفة العلمية في مجالات علم النفس وعلم النفس الفيزيولوجي وفيزيولوجيا الدماغ . وستبقى نظرية بافلوف الارتكاسية مركز إشعاع علمي
تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في
مجال علم النفس الفيزيولوجي .