معايير الجودة الشاملة في التربية و التعليم
بقلم: يوسف قادري (أستاذ باحث)
بقلم: يوسف قادري (أستاذ باحث)
جامعة باتنة، الجزائر.
لا تكون التربية النظامية قائمة على أسس صحيحة إلا إذا كانت أهدافها صحيحة أي منسجمة مع حقائق المجتمع الحسية و المعنوية، اعتبارا أن أهداف التربية النظامية هي القاععدة التي تقوم عليها المنظومة التربوية برمتها. عناصر هذه المنظومة تتلخص وفق ما ورد في النموذج المقدم من طرف المكتب العالمي للتربية بجنيف في ستة عناصر هي:
- أهداف التربية الوطنية المعلنة و الرسمية،
- الهيكل و التنظيم،
- الإدارة و التسيير،
- المناهج و المقررات التعليمية بما في ذلك الكتاب المدرسي،
- تكوين المعلمين،
- التمويل.
كل هذه العناصر مرتبطة ارتباطا وظيفيا بغرض تحقيق الأهداف المعلنة. إذا وقع أي خلل في واحد أو أكثر من تلك العناصر، تخفق المنظومة في تحقيق الأهداف المعلنة، و قد يكون الخلل في صياغة الأهداف المعلنة كما سوف نبينه بالنسبة للمنظومة التربوية الجزائرية مما يضفي على كل المنظومة وسم الرداءة.
إن مبحث صياغة الأهداف التربوية هو مبحث فلسفي يستند على رؤية واسعة للواقع و على تفكير منطقي، صحيح. تفكير معقول لما يبرره من حقائق، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع و بيئة الفرد بصفة عامة. لا يعقل مثلا، و لا يصحّ، أن تكون أهداف التربية في الجزائر هي "تعريب، ديمقراطية و إكساب العلم و التكنولوجيا للأجيال المتمدرسة" إذا كان المجتمع الجزائري متعدد اللغات، ذلك أن ديمقراطية التعليم تقتضي تحقيق تكافؤا في فرص التعلم و النجاح بين جميع فئات المجتمع، بغض النظر عن لغتهم اللأم. عدم المعقولية في صياغة الأهداف المشار إليها أعلاه تكمن في كون مبدأ تعريب المنظومة التربية في مجتمع متعدد اللغات يتعارض مع مبدأ تكافؤ فرص النجاح بين الفئتان المتمدرستان، من لغتهم الأم هي العربية و من لغتهم الأم هي الأمازيغية. تعريب المنظومة التربوية يعني تعميم اللغة العربية في المؤسسة التعليمية، علما أن المجتمع الجزائر ينقسم إلى فئتين لغويتين مختلفتين هما الأمازيغ و العرب. لا نظن أن فرص النجاح تكون متكافئة بين الفئتين إذا عممت لغة فئة واحدة و ألزمت في إطار التعليم الإلزامي كلى الفئتين أن تتعامل بلغة فئة واحدة منهما. عدم تحقيق تكافؤ في فرص النجاح، أو في أخذ الأسبقية في اكتساب خبرة النجاح، يعني أن المؤسسة التعليمية، وفق الأسس التي أسست عليها، لا يمكنها أن تحقق واحدا من الأهداف المعلنة: ديموقراطية التعليم.
وفق التحليل أعلاه، يبدو أن صياغة الأهداف التربوية في الجزائر، كما تم ترسيمها إبان نظام الحكم الاشتراكي و تم نشرها على مستوى منظمة اليونسكو، تفتقر للجودة. هي صياغة تفتقر للجودة لأنها غير معقولة لحقائق الواقع. تقرير مصير الأجيال لا يتم بالنوايا الطيبة بل بتفكير صحيح و هو معيار لجودة الأهداف التي تقاس على أساسها جودة باقي عناصر المنظومة التربوية و على الأرجح كذلك، مخرجاتها.
الأهداف المشار إليها أعلاه هي أهداف ذات طابع إجتماعي. المنظومة التربوية الجزائرية تسعى، وفق تلك الصياغة، إلى الاستجابة لأولويات ذات طابع اجتماعي محض. الفرد في خصوصيته، في استعداداته الفطرية، في اتجاهاته و قدراته و حاجياته، غير مرئي في تلك الصياغة رغم أنه هو الخلية الأساسية في ذلك المجتمع، باعتبار أن المجتمع هو مجموع أفراده. أليست الاستجابة لمطالب الفرد الإنمائية في خصوصيته و جدليته بين الفطري و المكتسب، هو بالضرورة استجابة لمطالب و حاجيات المجتمع؟ صوريا نعم إذا قبلنا أن المجتمع هو مجموع أفراده. في الواقع، يوجد من يعتقد أن مصلحة الفرد تكون مضمونة إذا تم الاستجابة لمطالب و أولويات المجتمع، باعتبار أن مصلحة المجموع هو بالضرورة مصلحة الجزء المشكل للكل. و على مستوى هذه المواقف الأساسية تتبلوع الاتجاهات الفلسفية المتباينة، و بالتالي الاتجاهات السياسية، بما في ذلك السياسات التربوية و الممارسات الميدانية، على جميع أصعدة المنظومة التربوية.
قضية الأهداف التربوية العامة هي إذن مبحث فلسفي و هي كذلك قضية محورية في المبحث حول تحديد معايير جودة التربية في بعدها المنظومي الشامل،حيث لا يمكن قياس مدى جودة مؤسسة التربية و التعليم، إلا وفق مدى تحقيق هذه المؤسسة الاجتماعية لأهدافها المعلنة. إن كانت تلك الأهداف المعلنة غير منطقية و غير صحيحة (تفتقر للجودة في الصياغة)، باقي مقومات المنظومة التربوية (الهيكل و التنظيم، الإدارة، المناهج و طرق التدريس، تكوين المعلمين، التمويل) تكون مؤسسة على أسس غير صحيحة، تماما مثلما يكون حال الاستنتاجات المنطقية المبنية على منطلقات غير صحيحة. في المقابل إذا كانت الصياغة معقولة لما يبررها من حقائق، و إن كانت مواقف متباينة حول أولوية الفرد أو أولوية المجتمع، باقي عناصر المنظومة التربوية تكون جيدة في ترتيباتها فقط وفق مدى نتاسقها مع أهداف المؤسسة المعلنة و مساهمتها في تحقيقها.
جودة الإدارة التربوية و المدرسية في إطار أهداف متمحورة حول المجتمع مثلا، تكمن في المراقبة المركزية، و المتابعة و التقويم، و لا يتأتى ذلك إلا في إطار من البيروقراطية التي تشل المبادرة و تمنع تكيف المدرسة على المستوى المحلي، مع خصوصية الواقع. و بطبيعة الحال تكون تلك حالة غير صحية.تفند جودة الاهداف، حتى و إن كانت الإدارة جيدة وفق معايير جودة مركزية التسيير. أما إذا كانت الأهداف متمركزة حول الفرد، فالفرد نفسه هو المراقب لمدى استجابة المدرسة لمطالبه، و الإدارة التربوية المعقولة و الجيدة، في تلك الحالة، هي الإدارة الغير ممركزة، المرنة، المكيفة لخصوصية الأفراد الذين تديرهم و تنظم العلاقات بينهم.
تجدر الملاحظة في هذا السياق، أن بوادر الاتجاه نحو لا مركزية التسيير بدأت تظهر في الخطاب السياسي في الجزائر بعد الانفتاح على التعددية الحزبية، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، في عهدة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد. و تطور هذا الاتجاه نحو التجسيد الفعلي إثر الإصلاحات التي انبثقت عن سياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أسس لجنة وطنية، أسندت لها مهمة إصلاح المنظومة التربوية بما يتماشى و الاتجاهات السياسية الجديدة نحو التعددية. و يتوقع نظريا أن تتجسد فكرة لا مركزية الادارة المدرسية، و ربما كذلك الادارة التربوية بصفة عامة، على المستوى المرزي، وفقا لمقاربة) ما بات يعرف بمشروع المؤسسة، حيث تمنح وفق تلك المقاربة، صلاحيات أكبر لمدراء المدارس في تنظيم المؤسسة التي يديرونها.
كذلك، تحديد مدى جودة هيكل وتنظيم المؤسسة التربوية في بعدها المنظومي، لا يصح إلا على ضوء أهداف التربية التي تم تبنيها، متمحورة حول المجتمع أو متمحورة حول الفرد. رغم عدم وضوح الأهداف التربوية التي تقوم على أساسها الاصلاحات التربوية التي شهدتها عهدة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، و نلاحظ التخلي عن المدرسة الأساسية و فصل التعليم الابتدائي عن التعليم الاعدادي، و هيكلة الجامع على أسس جديدة تعرف بنظان" أل أم دي" ، كلها مؤشرات على حدوث تغير في التربية النظامية الجزائرية باتجاه مبدأ التعددية، و لكن ليست كل عناصر المنظومة التربية متناسقة و متناغمة بما يضمن تحقيق الجودة الشاملة في تلك المنظومة التربوية.
طريقة الإنتقال من مرحلة إلى أخرى ضمن هيكل المنظومة التربوية، مثلا، تكون أكثر معقولية و أنسب إذا تمت وفق إجراءات التوجيه المدرسي بدل إرشاد الأفراد في خياراتهم للمواد التي تناسبهم وينصح بها مرشدهم التربوي. الأهداف التربوية المتمحورة حول المجتمع تقتضي توجيه الأفراد وفق نتائجهم المدرسية نحو مسارات تربوية تخدم المجتمع بتوفير يد عاملة تتوفر فيها ملامح الفرد وفق المقررات التربوية الموجودة في تلك المسارات. في تلك الحالة يتم توجيج الفرد ضمن هيكل المنظومة التربوية للمسار المناسب له ضوء نتائجه في حزمة من الامتحانات في مواد لم يخترها هو، بل فرضت عليه، كون تحديد المناهج الدراسية، التي لا تغدو أن تكون إلا موسوعية، و المراقبة الادارية لمدى تغطيتها يتم على المستوى المركزي و ليس على المستوى المحلي و على مستوى الفرد.. أما إذا كانت الأهداف التربوية متمحورة حول الفرد، فيمكنه أن يختار المواد التي تناسبه وفق منهج يجب أن يكون متنوع و غير موسوعي. و الفرد في هذه الحالة يحتاج إلى إرشاد بدل توجيه.
كذلك هو الحال بالنسبة لمعايير تحديد جودة المناهج الدراسية. المناهج الموسوعيته تكون أنسب في إطار أهداف تربوية متمحورة حول المجتمع، كون بيئة المجتمع أوسع من بيئة الفرد و اهتماماته مما يبرر موسوعيتها و تراكم مقرراتها التي يجب على الفرد أن يستوعبها. و قضية تحديد نمط المنهج المناسب لنمط الأهداف التربوية التي يتم تبنيها، يستدعي بالضرورة تحديد طريقة مناسبة لتقديمه للفئات المتمدرسة. تجدر الإشارة في هذا السياق، أن من بين الاصلاحات التي انبثقت عن اللجنة الوطنية التي تم تنصيبها يوم 9 ماي 200 من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بغرض إصلاح المنظومة التربوية، طريقة إيصال المناهج الدراسية وفق مقاربة ما بات يعرف ببيداغوجيا الكفاءات و هي طريقة تنسجم و تتناغم مع الأهداف المتمركزة حول الفرد بد الأهداف ذات الطابع الاجتماعي.
مقارنة سياسة الجزائر التربوية مع سياسات مجتمعات أخرى لها لديها نفس الاتجاه نحو التعددية، قد يكون ذا فائدة لاستخلاص الحلول البديلة للإختلالات التي يتم تشخيصها في المنظومة التربوية الجزائرية. في بريطانيا مثلا أهداف التربيةصيغت كالتالي: (تنمية الفرد في جميع أبعاده)، و هي صياغة تتجلى من خلالها فلسفة ترجح أهمية الفرد مقارنة للمجتمع حيث أن الفرد هو محور العملية التربوية، و هي صياغة مغايرة تماما للصياغة التي كانت عليها أهداف التربية في الجزائر إبان فترة الحكم الاشتراكي: (تعريب، ديمقراطي، نشر العلم و التكنولوجيا).
إذا كانت صياغة الأهداف التربوية في بريطانيا تتمحور بكل وضوح حول الفرد فإن الصياغة الجزائرية إبان الحكم الاشتراكي تتمحور بكل وضوح حول أولويات اجتماعية. و هذا ما يفسر الاختلاف في طريقة انتقال الفئات المتمدرسة من مرحلة إلى أخرى ضمن المنظومتين الجزائرية و البريطانية. هي تتم وفق استراتيجية في التوجيه في الجزائر في حين أن في بريطانيا تتم في إطار إرشاد الفرد المتمدرس في عملية خياره لما يناسبه من مواد تعليمية.
تنظيم الانتقال في المدارس البريطانية، من مرحلة التعليم الثانوي إلى مرحلة التعليم العالي، مثلا، يتم وفق ما تشترطه الجامعات من نجاح في مواد قليلة، لها علاقة بالتخصص، و هي مواد محددة، عادة ليس أكثر من ثلاثة مواد، قد كان للفرد حرية اختيارها في مساره الثانوي.. الفرد المتمدرس، وفق هذا التنظيم في هيكلة المدرسة و تنوعها من حيث المسارات أو المواد المتوفرة، هو المسؤول عن خياراته و لا يحتاج لتوجيه إلى مسارات موسوعية تفرض عليه مواد لا يرغبها. وفق أهداف و ترتيبات منظومة التربية البريطانية، الفرد المتمدرس لا يحتاج إلى توجيه بل هو يحتاج إلى أرشاد في عملية اختياره للمواد الدراسية التي ينبغي عليه التركيز عليها، حتى ينجح فيها و تمكنه من دخول الجامعة إن رغب في ذلك. الطالب هناك لا يدخل الجامعة بشهادة نجاح إثر تحصله على معدل عام في حزمة من المواد كما تعبر عنها شهادة البكالوريا. ترسخت في الجزائر فكرة الانتقال للجامعة بعد النجاح في شهادة البكالوريا، و نعتبر أن ذلك من الرواسب الفكرين التي لو تتغير رغم بروز مؤشرات عدة أن الإصلاحات الجديدة في المنظومة التربوية تتجه نحو التعددية،اللا مركزية، و على الصعيد البيداغوجي، نحو الفرد. الطالب في بريطاني يدخل الجامعة بشهادة نجاح خاصة بكل مادة اختارها هو بنفسه و تشترطها الجامعات في تخصصاتها التي لها علاقة بتلك المواد. تلك بكل تأكيد سياسة معقولة لنمط أهداف التربية المعلنة في بريطانيا.
بكل تأكيد كذلك، الإرشاد أقرب لمبدأ التعددية من التوجيه، و التجربة البريطانية في هذا المجال قد تفيد من لهم سلطة القرار على مستوى المنظومة التربوية الجزائرية، خاصة على مستوى الهيكل و التنظيم.
إصلاح المنظومة التربوية في الجزائر لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا كانت الأهداف التي يقوم على أساسها واضحة، الاستجابة لمطالب الفرد في خصوصيته الحسية و المعنوية أو الاستجابة لمطالب المجتمع. إشارتنا للتجربة البريطانية في الميدان التربوي لا يعني أننا نتخذها نموذجا و معيارا للجودة. المقارنة بين التجربة الجزائرية و التجربة البريطانية تقرب للقارئ معاني الاختلاف و مدى معقولية ما يجري في كل بلد. معيار الجودة هو المعقولية، الانسجام، المنطق، التوازن. بين المنظومة التربوية بجميع مقوماتها و محيط هذه المنظومة، التوازن كذلك بين أهداف هذه المنظومة و باقي مقوماتها. لماذا نستعير من خبرة غيرنا ما نراه مفيدا لنا و منسجما مع خصوصية واقعنا (الشمولوية أو التعددية). إن كانت قضية التناسق و العقلنة معايير للجودة، و متوفرة في المؤسسات التعليمية مجتمع آخر أكثر مما هي متوفرة عندنا؟
لا يكفي أن تتغير طرق التدريس في الجزائر نحو بيداغوجيا الكفاءات إن بقيت المناهج و المقررات ذات طابع موسوعي، لكي تتناغم مع اتجاهات المجتمع العامة و مع أهداف التربية كما تتجلى من خلال بعض الإصلاحات التي أشرنا إليها. لا بد أن يتحقق التناسق الكلي بين مختلف مقومات المنظومة التربوية، و بين هذه المقومات و محيطها الخارجي.
محيط المدرسة في الجزائر تغير بكل تأكيد، من الاشتراكية و مركزية اتخاذ القرار إلى التعددية و لا مركزية اتخاذ القرار، بصفة، و لكن تم ذلك بصفة غير متناسقة بين عناصر المنظومة التربوية مع أهدافها المعلنة. و لا تتزن تلك الأهداف المعلنة وتتناغم مع الواقع المعيش إلا إذا توافقت مع الاتجاه العام للمجتمع: التركيز على التعددية في خصوصية الأفراد المتمدرسين أو التركيز على فكرة إيديولوجية ما لا بد أن تلقنة لمجموع أفراد المجتمع، مجتمع متفتح على التعددية أو مجتمع شمولي.
المناخ السياسي في الجزائر يستوعب بكل تأكيد الرأي الآخر، أو على الأقل في الخطاب السياسي، و لكن لنكون واقعيين، ما يجب أن يكون ليس دائما مطابقا لما هو كائن، سواء كان ذلك على مستوى صياغة الأهداف كما تبين من خلال تحليلنا أعلاه أو على مستوى الإدارة، أوعلى مستوى الهيكل و التنظيم، أو على مستوى بناء المناهج الدراسية ، أو على مستوى تكوين العاملين بالقطاع أو على مستوى التمويل.
على مستوى الإدارة،. مركزية التسيير و سياسة التعيين السائدة ضمنها لا تزال سائدة، و هي بكل تأكيد لا تتناغم مع اتجاه المجتمع نحو التعددية التي تقتضي لا مركزية اتخاذ القرار.
على مستوى هيكلة و تنظيم المؤسسة التعليمية كذلك، نلاحظ أن عملية توجيه المتمدرسين و إرشادهم على مستوى مراحل الانتقال من طور تعليمي إلى آخر وفق ما تم من هيكلة للمنظومة التربوية و إقرار لمناهج موسوعية يتم على المستوى المركزي، لا يتناغم مع تعدد خصوصيات الأفراد المتمدرسين على المستوى المحلي. لا نلاحظ أن المتمدرس ينتقل من مرحلة إلى أخرى وفق خصوصيته (استعداداته، اتجاهاته، قدراته) و خياره، إذا كانت عملية التوجيه تتم دون منحه فرصة اختيار ما يرغب في تعلمه و إذا كان أحد أهم معايير توجيهه الفرد نحو المسارات التعليمية المتوفرة هو نتائج تحصيله في مواد لم يخترها هو بل وجه إليها و فرضت عليه وفق شموليتها و موسوعيتها، و نرجح أن تكون الرواسب الفكرية الثابتة لبعض من لهم سلطة القرار هي العامل المفسر الأساسي لعدم تناغم مختلف عناصر المنظومة التربوية، كما أبرزنا أهم مقوماتها، و بخاصة ممارسات التعيين الفوقية.
المشكل كما تم تشخيصه يحتاج لحلول بديلة، يتم اختيار أنجعها لتتحقق الجودة شاملة في التربية و التعليم. من بين تلك الحلول تغيير الذهنيات حتى تساير التحولات التي وقعت في محيط المدرسة و ضمنها. و قد لا تتغير تلك الذهنيات إلا بتغيير الأشخاص الذين يقاومون التغير الواقع حولهم وفق ممارسات ترسبت إثر خبرة في التسيير قد انقضت مبرراتها التشريعية العامة.
إذا تم إثبات التعددية السياسية (تعدد الاتجاهات و الطرحات) خارج محيط المدرسة، يجب على المدرسة أن تساير ذلك التغير و إلا فقدت توازنها الوظيفي مع محيطها و أخفقت في تحقيق جودة منتوجها، خريج المدرسة.
فقدان التوازن بين المدرسة و محيطها حالة غير صحية، تستدعي تشخيصا لشتى الإختلالات و تقويما لها. و لا نظن أن التشخيص الصحيح و التقويم يتم من طرف من كان غير خبير بميدان التخصص هذا. من بين معايير الجودة الشاملة في التربية و التعليم جودة أصحاب القرار على مختلف أصعدة المنظومة التربوية إن كان المناخ السياسي الراهن يقتضي ذلك. المنظومة التربوية تحتاج إلى خبراء في ميدان علوم التربية بدل خبراء في تسيير الموارد البشرية كما نلاحظه متفشيا من خلال سياسات التعيين للمناصب القيادية ضمن المنظومة التربوية، على مختلف مستوياتها، محلية، جهوية أو مركزية كانت، و مختلف مجالاتها (صياغة الأهداف، الهيكلة و التنظيم، الإدارة، بناء المناهج التربوية، تكوين العاملين بها، التمويل). التوفيق لا يكون مع الشخص الذي عنده سلطة التعيين في مراكز القيادة، بل مع جماعة خبراء أهل الميدان، الذين يرشحون للمناصب القيادة من يرون كفاءته لتقلد تلك المناصب القيادية، باعتبار أن يد الله (التوفيق) مع الجماعة التي يهمها الأمر، المختصين في ميدان علوم التربية تكوينا و ممارسة، ما دام أن القضية تتعلق بالتربية النظامية، و أهل مكة أدرى بشعابها.
نعتبر أن ممارسات التعيين الفوقية في المناصب القيادية داخل المنظومة التربوية بدل ترشيح القيادات و انتخابها، من طرف القاعدة، هي من رواسب ذهنيات مركزية التسيير و اتخاذ القرار، التي لم تتغير بنفس الوتيرة التي تغير وفقها الإتجاه العام للمجتمع، و بعض عناصر المنظومة التربيوية التي أشرنا إليها في تحليلنا. إذا كانت ذهميات من لهم سلطة القرار لم تتغير فعليا بما يتناسب و الاتجاه العم للمجتمع، نستبعد أن تتم هندسة المنظومة التربية بشكل يضمن تناسقها الكلي و جودتها.
معايير الجودة الشاملة في التربية و التعليم تقتضي أولا جودة الأهداف (متمحورة حول الفرد أو متمحورة حول المجتمع بما يتماشى و خصوصية المجتمع، في اتجاهاته و حقائقه الحسية)، و يقتضي كذلك التناسق بين هذه الأهداف و باقي عناصر المنظومة التربوية. لا نعتقد أن هذه الحالة من التوازن بين مختلف عناصر المنظومة التربوية تتحقق إلا بشرط واحد و هو الشخص المناسب في المكان المناسب، سواء كان ذلك على مستوى صياغة الأهداف، أو على مستوى الإدارة و التسيير أو على مستوى الهيكلة و التنظيم أو على مستوى بناء المناهج، أو على مستوى التكوين أو على مستوى التمويل. و يتم لا يتم تفعيل آلية اختيار ذلك الشخص إلا من خلال استشارة أهل الحرفة، باعتبار أن التوفيق يكون مع الجماعة، و أهل مكة أدرى بشعابها.
ربما لا يشاطر هذا الاعتقاد من يرى أن سياسة التعيين أكثر أمنا من المخاطرة بأشخاص لا يعرفهم من له سلطة القرار في التعيين. في هذه الحالة ربما التقارير الإستخباراتية أو الانتماء العشائري أو الولاء، أو غيرها من الاعتبارات هي المعيار الذي يتم على أساسه اختيار الشخص "المناسب" في المكان المناسب. و كأن الرؤية العلوية هي أصدق نباء من رؤية أهل الاختصاص في إجماعهم على الشخص المناسب. أليس أهل مكة أدرى بشعابها، منطقيا؟
خلاصة
معايير الجودة الشاملة في التربية و التعليم هي:
1. قبل أرساء المنظومة: تناسق أهداف المؤسسة التعليمية مع محيطها، و يقتضي معيار الجودة هذا فلسفة يكون مصدرها خبراء من ميدانها، مفكرون ذوي رؤية واسعة و واقعية، تتم تزكيتهم من طرف أهل تخصصهم، يكونون من أهل الحرفة، و أهل الحرفة أدرى بشعابها. الشهادة الإدارية التي تثبت تخصصهم لا تكفي حيث لا تعبّر بالضرورة على الكفاءة إلا إذا زكاهم أغلبية ممن هم من ميدان تخصصهم، باعتبار أن أهل مكة أدرى بشعابها... سياسة التعيينات الفوقية ليست معيارا للجودة بل ربما هي مؤشر فساد حيث لا يعين صاحب سلطة القرار الفاسد ألا فاسدا مثله يسهل ابتزازه.
2. إجرائيا على مستوى باقي عناصر المنظومة التربوية، معيار الجودة يكمن في التناسق بين باقي عناصر المنظومة التربوية فيما بينها و بين هذه العناصر و الأهداف المعلنة، و مؤشر الجودة هنا يكمن هو وجود الشخص المناسب في المكان المناسب، ترشيحا و انتخابا من طرف القاعدة و ليس تعيينا فوقيا.
3. بعد ضمان وجود جودة على مستوى المرحلتين السابقتين، معيار الجودة يتحدد على مستوى المرحلة الأخيرة هذه في مطابقة مخرجات المؤسسة التعليمية مع أهدافها المعلنة، مما يستوجب المتابعة و التقييم و التحسين بصفة مستمرة، و هي من أهم معايير إدارة الجودة الشاملة للمؤسسة الاجتماعية بصفة عامة، سواء كانت إنتاجية أو خدماتية. و لضمان تحقيق مطابقة المنتوج للأهداف المعلنة، و قد يتطلب تناسق عناصرالمنظومة و جودة الأجراءات ضمنها إنشاء هيئة مختصة في منح الاعتماد للمؤسسات التعليمية لضمان جودتها للمستفيدين (الزبون المحتمل).
عدل سابقا من قبل يوسف قادري في الأحد يناير 12, 2020 9:53 pm عدل 2 مرات