لقد عاشت التربية حتى يومنا هذا على ما يسمى بنقل الخبرات والمهارات والمعارف بين الأجيال المختلفة عن طريق ما نطلق عليه ( التعلم ) ،والتي تعتمد في مجملها على الاتصال المباشر بين ( المعلم ) و ( المتعلم ) ، والتي كانت تستخدم إلى وقت قريب جداً من ( اللغة ) وسيلة للاتصال المباشر أو غير المباشر من أجل القيام بمهمة نقل هذه الخبرات والمهارات وغيرها من جيل إلى جيل .
وكانت عمليات التطور والتغير ،ومن ثم التقدم تتم في العصور السالفة بشكل بطئ ، ثم بدأت تزداد سرعة إيقاعها كلما اقتربنا من بدايات القرن العشرين المنصرم ، كما أن الفجوة المعرفية بين الأجيال ظلت متقاربة طوال القرون السالفة ، مما كان يمثل إطارا من التقارب المعرفي يجعل متن مهمة التربية في نقل الخبرات والمعارف من السلف إلى الخلف أمراً يسيراً .
حتى بدأت التغيرات العملية والسريعة المتلاحقة ، مع منتصف القرن العشرين ، مما أدى إلى زيادة الفجوة اتساعاً بين الأجيال ، وأضحت مهمة التربية أكثر صعوبة ، ومن هنا تحتم على نظريات التربية الحديثة في طرح أفكارها عن الاهتمام بالمتعلم واحتياجاته .
ولكن وبرؤية نقدية نجد أن : الكثير من فلسفات التربية ، ونظم التعليم ظلت على حالها في رؤيتها للعلاقة بين المعلم والمتعلم ، وفي نظرتها لأساليب التعليم ، ولمصادر المعرفة .
ونجم عن التغيرات العملية والتكنولوجية التي تقاربت نتائجها النظرية والتطبيقية ، تفجير ما عرف بالثورة العلمية والتكنولوجية مع بداية الستينيات من القرن العشرين ، والتي أتاحت بدورها الكثير من الإمكانات المعرفية والإنتاجية غير المسبوقة للإنسان
. هذا ، قد ازدادت أزمة التربية ونظم التعليم المتباينة في الكثير من دول العالم ، حتى وصلت إلى ما يعرف بثورة المعلومات ، والتي غدت من سمات عصرنا الراهن ،وتضاعفت فيه المعرفة ، وتشابكت بشكل غير مسبوق إليه .
هذا هو أحد خبراء المعلومات يتحدث عن ما أوضحناه آنفاً ، فيقول : << إن العلم وحده ينتج حوالي 6 ملايين حقيقة كل عام >> ، ولمقارنة ذلك النمو المعرفي بالنمو لطفل يولد حتى يتخرج في الجامعة ، وحتى يصل إلى سن الخمسين من عمره ،فإن ( وهاهاكير) يصف ذلك بقوله : << إن معدل نمو المعرفة مقارنة بالوقت الذي يولد فيه الطفل اليوم وحتى تخرجه في الجامعة ، فإن كمية المعرفة في العالم سوف تتضاعف أربع مرات ، وعندما يصل الوقت الذي يكون فيه الطفل في الخمسين من عمره ، فإن المعرفة سوف تتضاعف 32 مرة ، وأن 97 % من كل شئ كان معروفاً في العالم سوف يكون قد تعلمه منذ كان وليداً >> لقد ألقى هذا على عاتق التربية بمسؤوليات ومهام جديدة سواء في فلسفاتها ، أو نظمها ، أو وسائلها ، ذلك لأن هذه التغيرات الجديدة طالت وبشكل مباشر كل مفردات المجتمع ، ودارت دورتها في مجالاته المختلفة . نقول لقد تغير وفق النظرة المستحدثة دور المعلم والمتعلم في العملية التعليمية ، وزادت وسائط التربية وأدواتها ، واتسع مجال التنافس بينها وبين ذلك القادم الجديد الذي يتطور كل يوم بشكل مذهل لدرجة أنه في القريب العاجل جداً سوف يستطيع القيام بترليون عملية عقلية أو أكثر ، ونعني بذلك القادم (الكمبيوتر ) . لقد شاع استخدام الكمبيوتر ، والأجهزة الخاصة بالاتصالات السريعة في حياتنا الحالية ، وقد بدأت هذه الوسائل تكشف لنا أسرار الطبيعة والكون مما أدى إلى تطورها بشكل هائل ، وبسرعة مذهلة وعليه فقد تكونت مفاهيم جديدة لما يعرف بعصر ثورة المعلومات أو تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات . وسوف نحاول أن نعطي القارئ توضيحاً لبعض هذه المفاهيم .
المفهوم الأول : البيانات :
نقصد بها المادة الأولية التي نستخلص منها المعلومات ، وذلك مثل بنود استمارة استبيان معينة ، أو قياس جهاز ما لحال’ الجو على فترات معينة ، وبالتالي يمكن القول بأن البيانات هي : ما ندركه مباشرة بحواسنا عن الأشياء المحيطة بنا ، والتي لا نلاحظها بشكل مباشر .
المفهوم الثاني : المعلومات :
ويقصد بها ناتج عملية معالجة البيانات التي تم جمعها ، حيث يتم فيها تحليل و تركيب هذه البيانات بهدف استخلاص ما تشير إليه من معان ، أو مؤشرات ، أو دلالات ، أو علامات . ولكن استخدام لفظ معلومات يدل على أشياء عديدة ،كما يهدف إلى خدمة أغراض ومجالات أوسع وأشمل ، ولعل ذلك نجده فيما ذهب إليه بعض العلماء . يقول ( بروكس ) : إنها ( أي المعلومات ) التي تستطيع أن تعدل أو تغير من البناء المعرفي بأي طريقة من الطرق . ويقسم ( بروكس ) المعلومات إلى عدة أقسام ،القسم الأول : المعلومات التي تأتي إلينا بواسطة الملاحظة المباشرة لما يحيط بنا ،القسم الثاني : يأتي إلينا مما يقوله الناس الذين يحيطون بنا ، القسم الثالث : يأتي إلينا مكن القراءة و الإطلاع ، القسم الرابع : يأتي إلينا من مصادر أخرى قد لا نكون على وعي أو معرفة بها. ويؤكد العالم الإنجليزي ( بروكس ) على أن كل المعلومات التي تعدل أو تغير من البناء العرفي هي نتيجة عمليات معلوماتية . ويرى العلامة ( روبرت هانز ) : أن المعلومات كلمة تحمل في طياتها معان كثيرة ، تتخذ عدة صور : منها ما يراه بعض الناس من أنها النقل عبر خطوط الاتصال ،ويقيسها بالخاصيات الإحصائية للعلاقات أو الإشارات . ومنها ما يراه البعض الأخر من أنها مجموعة الحقائق المسجلة ، وفي ختام حديثه عن معنى المعلومات يرتضي ( هانز ) أن المعلومات هي خاصية البيانات الناتجة بواسطة عملية ،أو المنتجة بواسطة عملية أخرى ، وهذه العملية قد تكون ببساطة نقل البيانات ،وقد تكون العملية هي اختيار البيانات ،وقد تكون أخيراً هي تنظيم البيانات وتحليلها . ولنا ملاحظة على عملية نقل البيانات ففي تلك الحالة ينطبق عليها التعريف المستخدم في نظرية الاتصال . ونقول :أنه إذا كانت البيانات هي المادة الخام المتمثلة في أرقام أو جمل أو عبارات ، فإن المعلومات هي في التحليل الأخير : نتيجة تجهيز هذه البيانات ،أو هي نتائج تفسيرها وفق رؤية نظرية أو حسب الحاجة التي يتطلبها موقف معين . المهم أن هذه المعلومات تؤدي بنا إلى الوصول أو الحصول على معرفة نوع جديد ( معرفة طازجة متجددة)
المفهوم الثالث : المعرفة: _
المعرفة هي : الأفكار أو المفاهيم أو الحقائق الناتجة عن مجموعة تفسيرات ، وبمعني أخر المعلومات المتاحة لدينا عن موقف أو حالة معينه . ويمكن لنا وضع المعرفة من خلال ما لدينا من معلومات يمكن لنا استخدامها في حياتنا الواقعية . لقد أصبحت المعلومات في العصر الحاضر صناعه ( الكمبيوتر والانترنيت)، بل هي الآن أقوي الصناعات التي من شأنها تزويد الأمم بأهم مصادر القوة والمنعة والتفوق .
عندما اخترع الألماني / جونتبرج أول مطبعة ، أحدث ذلك ثورة فكرية مهمة ، حيث أصبح الكتاب بعدها متاحاً للعامة والخاصة علي كل المستويات ، وبذلك نشطت حركة المعلومات والفنون والآداب والعلوم ، وقد اعتمدت هذه الحركة النشطة علي الكلمة المقرؤة ( المكتوبة) والمسموعة
. وبعد حوالي أربعة قرون من اختراع جونتبرج لمطبعته اهتز العالم مرة أخري في مطلع القرن العشرين وهو يستمع إلي أول صوت ينطلق من جهاز الراديو ، حيث بكون المتحدث علي بعد مئات الأميال من المستمع ، ثم بدأت ثورة الترانزيستور لتضع عشرات الإذاعات عند طلب المستمع من خلال إدارته لأزرار تحرك مؤشر المذياع ، وبذلك حلت الكلمة المسموعة كوسيلة اتصال شعبية بين ملايين الناس ، وأصبح من حق كل فرد أن يستمع إلي المذياع وقتما شاء ، وإلي ما يحلو له من إذاعات أو برامج .
ثم بدأت ثورة أخري هي ثورة الكاسيت ، حيث يمنح الفرد الحق في أن يختار المادة التي يريد أن يسمعها في أي وقت يشاء . كل ذلك بدأ يؤدي إلي تغير كبير في القيم والثقافات والفنون والرؤى والاتجاهات في مختلف بقاع المعمورة الأرضية . ثم جاء التليفزيون ليوحد بين الصوت والصورة ، وليصبح العالم عند أطراف أصابعنا ، ويصبح المشاهد مشاركاً في الحدث وقت وقوعه . كل هذا جعل من الصعب حجب الحقائق ، أو تزييفها ، وعليه زادت الحرية وبدأ التدفق السريع للمعلومات يجعل عالمنا قرية واحدة صغيرة .
أهم سمات المعلومات : -
تتصف المعلومات عن غيرها من الموارد الطبيعية المتاحة ( مثلاً ) بما يجعلها مختلفة كل الاختلاف عن أساليب المعرفة أو القوة السابقة عليها ، وعليه يمكن لنا أن نوجز أهم سمات المعلومات فيما يلي : - 1) المعلومات هذا المورد الجديد لا يقل أو ينقص عندما ينتقل فلي الغير ، كما هو الحال بالنسبة للموارد الطبيعية أو الثروات المعدنية أو البشرية . 2) المعلومات مورد متجدد يتزايد باستمرار { بالتراكم } ، ويزداد سرعة كلما زاد كمه { حجمه } . 3) المعلومات تفيد في تحويل مجالات العمل أو العلم لتصبح أكثر قيمة ونفعاً . 4) المعلومات سهلة النقل ، وهي أقل كلفة وأسرع من غيرها من الموارد الطبيعية ، ولذلك فإن وسائل نقلها ترتبط بدرجة تطورها وتقدمها ، وسنوضح هذا بالمثال الأتي : -
الكتب مثلاً تحتوي علي ثروات معلوماتية ضخمه لا تعد ولا تحصي ، لكننا لكي نحتفظ بها مطلوب منا أن نوفر لها أماكن كبيرة مجهزة تجهيزاً خاصاً من أجل المحافظة عليها ، وإذا لأردنا أن ننقلها لمكان أخر فإن ذلك يحتاج إلي الكثير جداً من الوقت والجهد والمال ، نفس الوضع نحتاجه إذا أردنا أن نحلل أو نرصد محتويات ومضامين هذه الكتب .
أما المعلومات المتدفقة من خلال شبكة المعلومات فإنها توفر لنا الوقت والجهد والمال ، وفي نفس الوقت تؤدي لنا فائدة أكثر عملية في حالات ربما تكون شديدة الدقة والحرج علي المستوي الفردي أو القومي .
q كل هذا الذي أسلفناه طبع عصرنا الراهن بكونه عصر المعلومات ، وهو ما جعل من الأهمية بمكان ، أن تعيد التربية النظر في الكثير من الأفكار والطرائق التي كانت تستخدمها من قبل في ضوء التحديات الهائلة التي تفرضها الثورة الجديدة ، ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات . q نعود لنقول إنه علي أساس الشرائح الدقيقة والدوائر المتكاملة قامت منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين ، صناعة أجهزة إلكترونية بالغة الصغر والدقة ، وكذلك صناعة شرائح للذاكرة ، وتم دمجها معاً في حاسبات آلية صغيرة .
q وبناءاً علي المعالجات الدقيقة ، وشرائح الذاكرة ، والحاسبات الصغيرة ، تم إحداث تطوير جذري هائل في الاقتصاد العالمي ، وفي المجتمع الصناعي التقليدي ، وهذا يسمي بثورة المعلومات ، أي أنه تحقيق أو إحداث تغير أساسي في تكنولوجيا المعلومات إنتاجاً وتجهيزاً ، نقداً وتوزيعاً واستعمالاً وتخزيناً علي المستوي العالمي .
q وخلاصة الأمر : أننا انتقلنا الآن من عصر المعلومات المميكنة ، إلى عصر المعلومات الكمبيوترية أو المحو سبة ، وهو عصر صبغ تكنولوجيا المعلومات بالصبغة الإلكترونية ، والتي شملت المعالجة الإلكترونية للمعرفة ،وليس مجرد المعالجة المجردة للبيانات أو المعلومات كما كان من قبل .
q كما زادت الاستخدامات لتكنولوجيا ثورة الاتصالات ، وخاصة ( الاتصال عن بعد ) في مجالات الحياة المختلفة ، وعليه فقد أصبح المكان والزمان في ظل هذه الثورة يحمل معنى جديداً ، كما زادت استخدامات هذه التكنولوجيا في وسائل الإنتاج الصناعي المتعددة ، فترتب على ذلك زيادة وجودة الإنتاج بجهد وتكلفة أقل ، وبطريقة أنظف ، وغير مؤثرة بالسلب على البيئة .
q كما أن هذه الثورة أتاحت من خلال التكنولوجيا الحيوية ، وتكنولوجيا الفضاء إمكانيات ضخمة في الزراعة(الهندسة الو راثية) ، ومجالات الطب والأدوية والعلاج.
q كل هذا جعل التربية في عصرنا تحاول أن تبحث عن دور جديد وفاعل في ظل هذه التحديات ،فأدى ذلك بها إلى أن تغير أساليبها وفلسفاتها لتظل قادرة دوماً على الوفاء بما يتطلبه المجتمع الإنساني منها .